[ ص: 185 ] - 11 - القواعد التي يحتاج إليها المفسر
لا بد في تناول أي علم من العلوم من معرفة أسسه العامة ومميزاته الخاصة حتى يكون الطالب له على بصيرة ، وبقدر ما يتمكن الإنسان من آلة العلم بقدر ما يحرز من نصر فيه ، حيث يلج فصوله من أبوابها وقد أعطي مفاتيحها ، وإذا كان القرآن الكريم قد نزل بلسان عربي مبين : إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ، فإن ترتكز على قواعد العربية ، وفهم أسسها ، وتذوق أسلوبها ، وإدراك أسرارها ، ولذلك كله فصول متناثرة ، ومباحث مستفيضة في فروع العربية وعلومها ، إلا أننا نستطيع أن نجمع موجزا لأهم ما يجب معرفته في الأمور الآتية : القواعد التي يحتاج إليها المفسر في فهم القرآن
الضمائر
للضمائر قواعدها اللغوية التي استنبطها علماء اللغة ، من القرآن الكريم ، ومن مصادر العربية الأصيلة ، ومن الحديث النبوي ، ومن كلام العرب الذين يستشهد بكلامهم نظما ونثرا ، وقد ألف في بيان الضمائر الواقعة في القرآن مجلدين . ابن الأنباري
وأصل وضع الضمير للاختصار ، فهو يغني عن ذكر ألفاظ كثيرة ، ويحل محلها مع سلامة المعنى وعدم التكرار ، فقد قام في قوله تعالى : أعد الله لهم مغفرة [ ص: 186 ] وأجرا عظيما ، مقام عشرين كلمة لو أتي بها مظهرة ، هي المذكورة في صدر الآية : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما .
والأصل تقديم مفسر لضمير الغائب . . ويعلل النحاة هذا الأصل بأن ضمير المتكلم والمخاطب يفسرهما المشاهدة ، وضمير الغائب عار عن هذا الوجه من التفسير ، فكان الأصل تقديم معاده ليعلم المراد بالضمير قبل ذكره . ولذلك قالوا : يمتنع عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، واستثنوا من هذه القاعدة مسائل يرجع فيها الضمير إلى ما استغني عن ذكره بما يدل عليه من قرائن في نفس اللفظ ، أو أحوال أخرى تحف بمقام الخطاب ، قال ابن مالك في " التسهيل " : " الأصل تقديم مفسر ضمير الغائب ، ولا يكون غير الأقرب إلا بدليل ، وهو إما مصرح به بلفظه ، أو مستغنى عنه بحضور مدلوله حسا أو علما ، أو بذكر ما هو له جزء أو كل أو نظير أو مصاحب بوجه ما " .
وعلى هذا فالمرجع الذي يعود إليه ضمير الغيبة يكون ملفوظا به سابقا عليه مطابقا له -وهذا هو الكثير الغالب- كقوله تعالى : ونادى نوح ابنه ، [ ص: 187 ] أو يكون ما سبق متضمنا له ، كقوله : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .
فإن ضمير " هو " يعود على العدل الذي يتضمنه لفظ " اعدلوا " أي إن العدل أقرب للتقوى ، أو دالا عليه بالتزام كقوله : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ، فالضمير في " إليه " يعود على العافي الذي يستلزمه " عفي " .
وقد يكون المرجع متأخرا لفظا لا رتبة كقوله : فأوجس في نفسه خيفة موسى ، أو لفظا ورتبة كما في باب ضمير الشأن والقصة ونعم وبئس كقوله : قل هو الله أحد ، وقوله : فإذا هي شاخصة ، وقوله : بئس للظالمين بدلا ، وقوله : ساء مثلا القوم ، أو متأخرا دالا عليه كقوله : فلولا إذا بلغت الحلقوم ، فضمير الرفع مضمر يدل عليه " الحلقوم " ، والتقدير : فلولا إذا بلغت الروح الحلقوم ، أو مفهوما من السياق كقوله : كل من عليها فان ، أي على الأرض ، وقوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر ، أي القرآن ، وقوله : عبس وتولى ، أي النبي -صلى الله عليه وسلم- وقوله : أم يقولون افتراه ، فالواو في " يقولون " للمشركين ، وفاعل " افترى " للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومفعوله للقرآن .
وربما عاد الضمير على اللفظ دون المعنى كقوله : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، فالضمير في " عمره " المراد به عمر معمر [ ص: 188 ] آخر ، قال : يريد آخر غير الأول ، فكنى عنه بالضمير كأنه الأول ، لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأول ، كأنه قال : ولا ينقص من عمر معمر ، فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأول ، ومثله قولك : عندي درهم ونصفه ، أي نصف آخر " . . الفراء
وربما عاد الضمير على المعنى فقط كقوله : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين ، فالضمير في " كانتا " لم يتقدم لفظ تثنية يعود عليه ، لأن الكلالة تقع على الواحد والاثنين والجمع ، فثنى الضمير الراجع إليها حملا على المعنى ، وقوله وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ، فالضمير في " منه " يعود على معنى الصدقات ، لأنه في معنى الصداق ، أو ما أصدق كأنه قيل : وآتوا النساء ، صداقهن ، وما أصدقتموهن .
وقد يؤتى بالضمير أولا ثم يخبر عنه بما يفسره ، كقوله : إن هي إلا حياتنا الدنيا .
وقد يثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين كقوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ، وإنما يخرج من أحدهما . وهو الملح دون العذب ، لأنه إذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما . وبهذا قال الزجاج وغيره .
وقد يعود على ملابس ما هو له كقوله : لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ، أي ضحى يومها لا ضحى العشية ، لأن العشية لا ضحى لها .
وقد يراعى في الضمير اللفظ أولا ، ثم يراعى المعنى ثانيا ، كقوله : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ، أفرد [ ص: 189 ] الضمير في " يقول " باعتبار لفظ " من " ثم جمع في " وما هم " باعتبار معناه .
"