فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة .
بعد أن أشار سبحانه إلى أن الذين يجعلون نصرتهم من قبل المخالفين، وولايتهم لهم، ويقبلون أن يكونوا لهم تبعا - أخذ يبين أنه من بين الصفوف الإسلامية من ينتمون إليهم بقلوبهم، وهم بين المسلمين بمظاهرهم سواء أكانت هذه الظاهرة لها صلة بالخضوع الظاهري والحقيقي كضعاف المسلمين، أم كانوا لا يخضعون لمبادئ الإسلام بأي نوع من الخضوع كالمنافقين الذين لا يذعنون إذعانا ضعيفا أو غير ضعيف بل يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
وهنا نقف أمام العبارات السامية ونحاول أن نذكر بعض ما تشير إليه من بيان، ونتعرض في ذلك لأمور بيانية:
أولها - قوله تعالى: فترى الذين في قلوبهم
الفاء تفصح عن شرط مقدر، مؤداه أنه إذا كان الذين يتولونهم منهم، فإنك واجد من بين صفوف المسلمين من في قلوبهم مرض يسارعون فيهم... إلى آخره. والتعبير بقوله تعالى: فترى تصوير للحال الواقعة من أولئك الضعفاء في إيمانهم، والمنافقين في قلوبهم - بأنها كالمرئية الظاهرة التي لا تخفى على ذي البصيرة المدركة، وفي هذا تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتنبيه للحال الواقعة ليعالجها بهداية الله تعالى، وما آتى به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من حكمة، وليحتاط عليه الصلاة والسلام منهم، وليهيمن على توجيه قلوب الضعفاء، وتربية من يصلح منهم للتربية على [ ص: 2244 ] الإيمان، ممن لم يرشدوا ولم تمس بشاشة الإسلام نفوسهم، ولم تشرب قلوبهم حبه.
ثانيها - التعبير بقوله سبحانه: الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم وفي التعبير السامي، إشارة إلى أن سبب هذا الأمر منهم هو أن في قلوبهم مرضا، ومرض القلوب يكون إما من خور العزيمة، وعدم الإحساس بالقوة الدافعة لأن ينتصروا مما يقع عليهم من أذى، وإما من النفاق. الذين يعطون لهم حق الولاية والنصرة دون المؤمنين،
والمسارعة: المبادرة، وتعدى الفعل هنا بـ: "في" مع أن المبادرة تتعدى بـ: "إلى"، والحكمة في ذلك الإشارة إلى أنهم لا يدخلون ابتداء فيهم، بل إنهم فيهم بقلوبهم من قبل، فالمسارعة انتقال من حال إلى حال في صفوفهم أي: أنهم منغمرون فيهم دائما، ولا يخرجون عن دائرتهم.
ثالثها - أنهم في مسارعتهم وبقائهم على الولاء لهم والانتصار بهم يقولون بأفواههم: نخشى أن تصيبنا دائرة الدائرة ما يصيب الجماعات من شدائد ونوازل بسبب أعدائهم، ويقول الواحدي في أصل معناها: الدائرة من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة هي التي تخشى كالهزيمة والحوادث، ومقتضى كلام أن الدائرة كالدولة؛ إذ تتداول بين الناس، كما قال تعالى: الواحدي وتلك الأيام نداولها بين الناس
والدائرة تدور بين الناس والجماعات، بيد أن الدولة تتداول بالقوة والسلطان والعزة، والدائرة تدور بالهزيمة والجائحات، فهي تدور بين الناس من جماعة إلى جماعة، ومن يخشى الدائرة من الجزع والهلع يتوقع الأذى والشر، ولقد قال الشاعر في معنى الدائرة:
ترد عنك القدر المقدورا ودائرات الدهر أن تدورا
وإن أولئك المتصفين بهذه الصفات من مرضى القلوب لا يثقون بنصر الله، أو على الأقل حالهم ليست حال المطمئن إلى نصر الله، لخور نفوسهم، وضعف [ ص: 2245 ] إيمانهم، أو امتلاء قلوبهم بالنفاق، وإن إنهاء هذه الحال يكون بالنصر المؤزر، ولذا يقول سبحانه في توقع النصر المؤزر، والفتح المبين: فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده الفتح يطلق بمعنى التوسعة، كما قال تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرضويطلق بمعنى الفصل بين الحق والباطل، ومن ذلك قوله تعالى: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ويطلق بمعنى الظفر والنصر، ومن ذلك قوله تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا
والفتح هنا يراد به المعاني الثلاثة، فهو السعة بعد الضيق، والفصل بين حق صادق، وباطل طاغ، والنصر والظفر.
ومعنى الرجاء من الله تعالى الوعد القاطع؛ لأنه من القادر على كل شيء الذي لا يصعب عليه شيء، والتعبير بالرجاء لتعليم المؤمنين ألا ييأسوا من رحمة الله ونصر المؤمنين; لأنه وليهم وناصرهم، فالله تعالى يعد المؤمنين، وهو الذي لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، فالله سبحانه وتعالى ينبه المؤمنين إلى رجاء النصر والسعة والفصل بينهم وبين أعدائهم وذلك كله من الله تعالى.
أو أمر من عنده والأمر الذي يجيء من عند الله هو خضد شوكة غير المؤمنين، حتى يرجى نصره، ولا يخشى من الدوائر أو تزول دولتهم.
ومعنى النص الكريم أن الله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين بالفتح القريب الذي يرجوه المؤمنون، وأنه سبحانه وتعالى سينجز وعده الذي وعد به عباده الصالحين، وعندئذ تكون العزة لله ولرسوله والمؤمنين، ويكون الندم والحسرة على ضعفاء الإيمان، ولذا قال سبحانه:
فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين وعند الفتح، أو الأمر الذي يزيل سلطان من يستنصر بهم مرضى القلوب يفرح المؤمنون بنصر الله، ويصبح الذين أسروا في أنفسهم خذلان المؤمنين، ورجاء ما عند غيرهم نادمين على ما [ ص: 2246 ] أسروه، وخيب الله ظنهم فيهم؛ إذ رجوا ما عند الناس، ولم يرجوا ما عند الله، ورضوا بنصرة الطاغوت، وتركوا نصرة الله تعالى، وهنا نتكلم في أمرين: أولهما - معنى الندم على ما أسروه، أن الندم في هذه هو الظن الفاسد الذي وقعوا فيه، وخيبة الأمل فيما يرجونه، فليس ندمهم كندم التائب الذي يرجع إلى الله، وإنما ندمهم كندم المغيظ المحنق الذي كان يتوقع - أمرا فتبين له غيره.
الأمر الثاني: أن الله عبر عن ندمهم بالوصف لا بالفعل للإشارة إلى أن هذا الندم حال دائمة مستمرة تتضمن الحسرة والغيظ، والألم المستمر.