الكفر بالخالق المنشئ المسخر الوجود للإنسان
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم )
* * * [ ص: 185 ] إن الكافرين يتعجبون من ضرب الأمثال ، ويقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ وحالهم عجب لأنهم يرون المحسوس الذي يدفعهم إلى الإيمان بالله الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهن ، ومع ذلك يكفرون ولا يؤمنون ، ولقد وبخهم الله سبحانه وتعالى أبلغ توبيخ فقال تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم .
(كيف ) يستفهم بها للحال ، والمعنى كيف حالكم وبعدكم عن الإدراك والحق وأنتم تكفرون بالله الذي أنشأكم وأخرجكم من الموت إلى الحياة ؟ ! إنكم ترون أن الطفل يولد ، ويجيء من غيب الله تعالى ، وترونه يشب غلاما فصبيا فشابا فكهلا فشيخا فيموت ثم يقبر ثم تكون الحياة بعد ذلك ، ترون الأمور الثلاثة ; الأولى موت ، ثم حياة ، ثم موت ، أفلا يكون بالقياس على البدء بالموت ثم الحياة ثم الموت أن نحييكم تارة أخرى ; وقد قدر سبحانه على الأمور الأولى ، أفلا يقدر على الأخيرة ؟ كما بدأكم تعودون .
والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع لا لإنكار الوقوع ، والفرق بينهما أن إنكار الوقوع معناه النفي ، وهو لا يصلح هنا ، وأما إنكار الواقع فمعناه التوبيخ أبلغ التوبيخ على ما وقع ، فقد وقع ذلك الأمر الغريب ، وهو أنهم يكفرون أو يجحدون بالله بألا يعبدوه وحده ، وهو الذي خلقهم ، فأحياهم ، وقد كانوا أمواتا ، وذلك محسوس مرئي ، وأوثانهم لم تصنع شيئا من هذا ولا يمكن أن تفعل .
ومعنى الموت الأول الذي يدل عليه قوله تعالى : وكنتم أمواتا هو أنهم كانوا عدما ليست فيهم حياة ، أو كانوا أجساما جامدة هي الطين ، أو نطفا في بطون الأمهات ثم مضغا مخلقة وغير مخلقة ، فجعلكم أحياء .
وكيف يطلق على الجماد أنه ميت ، مع أن الموت أمر نسبي تكون قبله حياة ، ثم تسلب هذه الحياة فيكون الموت ، والجماد لم تسبقه حياة ، حتى يكون من بعدها موت ؟
[ ص: 186 ] ونقول في الجواب عن ذلك : إن الموت لا يقتضي وجود حياة سابقة ، بل يطلق على الجماد ذاته ، فيقال : أرض موات ، وأرض ميتة ، وإحياؤها يكون بوجود الغيث وإنباتها النبات بإذن الله تعالى ، كما قال تعالى : وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ، وقال تعالى : رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج .
فقوله تعالى : وكنتم أمواتا ، أي كنتم لا حياة فيكم فأحياكم فخلق التراب ثم أنشأكم منه ، فأحياكم فأفاض عليكم بالحياة ، وهم قبل هذا الإحياء لم يكونوا شيئا مذكورا كما قال تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، وقوله تعالى : وكنتم أمواتا فأحياكم خطاب لهم بالانتقال من الغيبة إلى الخطاب ، وهو دال على أن ذلك يعلمونه بالعيان والحس ، لا بمجرد التصور والتفكر ، ثم يميتكم و (ثم ) هنا للتراخي ; لأنه بعد الإحياء يعيش أجلا محدودا ، ثم يموت ، و لكل أجل كتاب ، ثم يحييكم بالبعث والنشور ، ثم تكون القيامة ، ثم إليه سبحانه ترجعون ، وذلك هو مدلول قوله تعالى في آية أخرى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا وإنه كما ذكرنا أخذ من الواقع الذي يحسونه ، دليلا على وقوع ما ينتظرهم ، وينتظرونه ، وهو البعث ، فإذا كان سبحانه وتعالى أنشأ من العدم حياة ثم سلبها ، فإنه قادر على إعادتها ، ولكنهم يؤمنون بالحس وحده ، ولا يؤمنون بالغيب الذي لا يحسون .
قوله تعالى : ثم إليه ترجعون وثم هنا للتراخي ; أي بعد أن يقضوا حياتهم ، ويموتوا ويدفنوا في قبورهم يرجعون ليحاسبهم على ما قدموا من عمل ، فإن خيرا فخير ، وإن شرا فالعذاب .
وتقديم (إليه ) على (ترجعون ) للإشارة إلى بأوهامهم فيها قدرة ، ولا قدرة ، فالرجوع إليه سبحانه وتعالى . أنه وحده هو الذي إليه يرجعون ، لا إلى آلهتهم التي يتوهمون
[ ص: 187 ] إن الله تعالى خلق الخلق ، وأحياهم بعد العدم ، ولم يتركهم ، بل أنعم عليهم بالأرض وخيراتها ، وكل ثمراتها ، وسخر لهم ما في السماوات والأرض ، ومع ذلك كفروا بربهم الذي أولاهم الحياة ، وأولاهم نعم الوجود ; ولذلك قال تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا
أي أنه سبحانه وتعالى خلق لكم معشر بني آدم الأرض ، وما فيها جميعا ، خلق لكم كل ما في الأرض من ثمرات وزروع تنبت بإذن الله تعالى ، وما يستنبطون من فلزات ، ومعادن سائلة وجامدة ، خلق لكم جميعا ، كل ما في الأرض مما حوت بطونها ، وجرت به أنهارها ، ونزل من السماء ماءها . ومعنى (لكم ) اللام فيه للاختصاص أو التمليك ، خلقه مملوكا لكم بتمليك ربكم ، وهذا من آلائه ونعمه عليكم ، أو نقول خلق وقدر وأنشأ كل ما في الأرض جميعه ، لأجل أن تنتفعوا به ; تستطيبون طيباته ، وتتركون خبائثه ، وجاءكم بالشرائع التي تبين لكم الطيب فتتناولونه مباحا لكم حلالا طيبا ، وتبين الخبائث لتجتنبوها ، فأنتم في نعم الله دائما في هذه الأرض ، جعلها فراشا ، وملأها بالنعم على ظاهرها ، وفيما اكتنزته بطونها ، وبين الطيب ليميز عنه الخبيث .
وهنا كلمتان لا بد من ذكرهما :
أولاهما - ما قرره العلماء من أن هذه الآية تدل على أن إلا ما ثبت بالدليل منعه ، فكل شيء مباح بحكم الإباحة الأصلية التي ثبتت بأن الله تعالى خلق للناس ما في الأرض جميعا لينتفعوا به ، وما كانوا لينتفعوا بهذه الأشياء إلا إذا كان قد أباحها ، واستثنى الأكثرون العلاقة بين الرجل والمرأة ، فإنها على المنع إلا أن يكون السبب المبيح ، وإن ذلك لا يمنع أن الأشياء مباحة في أصلها ، فالتنظيم بالزواج لا يمنع الإباحة . الأصل في الأشياء الإباحة
وإن الأمر فيما ، يطلبون متروك عند الإباحة إلى ما يجدون من متعة يستمتعون بها أو أمرا حسنا يستحسنونه ، وهذا مبني على أن الأشياء لها حسن ذاتي وقبح ، [ ص: 188 ] وهذا لا يستلزم أن يكون التكليف قائما على الاستحسان أو الاستهجان ، إنما التكليف من أمر الله ونهيه .
الكلمة الثانية - أن قوله تعالى : جميعا متعلقة بما في الأرض أي أنه جميعه لكم معشر الناس ، فليس لكم بعضه دون بعضه ، بل هو لكم كله ، لأجلكم ، تنعمون به ، وتعبدون الله تعالى على آلائه ، فهو يؤدي إلى أن تكون هذه الملكية التي منحها الله تعالى لكم لتشكروها ، ولتعبدوه بهذا الشكر ، كقوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
ولا يتبادر إلى الذهن أنها تأكيد لقوله تعالى : لكم . أي أن الله تعالى خلق الأشياء لكم جميعا ، فلا ينفرد قبيل دون قبيل ، ولا جماعة دون جماعة ، ولا قوم دون قوم ، ولا غني دون فقير .
وإننا لا نرى ذلك - أولا : لأن ذلك بعيد في اللفظ لأن التأكيد يكون للقريب ، والقريب هنا هو ما في الأرض كله للناس ، يتخيرون منه ، ولا يطلبون خبيثه ، فلا يؤكد اللفظ إلا ما يقترن به من القول ، فلا يفصل بين المؤكد والمؤكد ، وعلى أي حال فإنه بمقتضى عموم قوله تعالى : لكم أن الخلق لكم كلكم ، وهذه الكلية التي تعم الناس أجمعين ثابتة بعموم الخطاب ، لا بلفظ جميعا .
وليس معنى أن ما في الأرض لهم كلهم ، أن يتقاسموه ، وأن يأخذوا الخير جميعهم مقسما ، من غير تمييز بين عامل وخامل ، ولا بين موفق وغير موفق ، إنما لكل امرئ عمله ، ولكل امرئ ما كسب .
ولا تقتضي الكلية أن يتساوى الناس في أرزاقهم ، فإن الرزق يمنحه الله تعالى لمن يعمل ويكسب ، ولكن يتساوى الناس في تمكينهم من الأرض ، وكل وما يكسبه ، والله هو الغني الحميد .
[ ص: 189 ] وإنه كما ملك الله تعالى عبيده كل ما في الأرض لكلهم عاملين فيه جادين ، سخر لهم ما في السماوات والأرض ; ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر نعمة الأرض عليهم بما فيها ، قال تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم
استوى معناها قصد مرتفعا ، أو ارتفع إلى السماء ، وهي في هذه الآية ما علا ، وكان كالسقف المحفوظ ، فسوى السماوات سبعا أي جعلها سبعا ; ولأن السماء ، وهي الجهة العالية ، كما أشرنا واحدة في لفظها متضمنة السبع التي سواهن الله سبحانه وتعالى في معناها ; ولذا أعاد الضمير عليها بما يدل على الجمع الذي يشمل أفرادا متعددين .
والمراد من السماوات السبع التي سواهن الله تعالى أي خلقهن ، أو قسمهن وجعلهن سبعا متساوية ، فمعنى سواهن : قسمهن بالتسوية سبعا ، وهي مجموعات النجوم المتطابقة طبقة بعد طبقة ، الواحدة أعلى من الدنيا وهكذا .
وكان الشائع بين علماء الفلك خمسا ، لا سبعا ، ولكن بعد عصر القرآن بنحو أربعة عشر قرنا إلا قليلا كشفوا بآلات الكشف الحديثة نجمين كوكبين دلا على أنها سبع ، وهي : عطارد ، والزهرة ، والمريخ ، والمشترى ، وزحل ، وكشف أورانوس ثم نبتون ، وكل كوكب في طبقة من السماء ، والشمس والقمر ليسا من السبع ، وهذا قوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ، فبمقتضى هذا النص تكون الشمس والقمر ليسا من السماوات السبع اللائي عدهن القرآن الكريم ، وإن كانتا في السماء ، وتسمى السبع المجموعة الشمسية ، والشمس في طبقة أعلى منهن .
وإن قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع ، يدل بظاهره في العطف بـ ثم على أن السماوات سويت سبعا بعد خلق الأرض ، ولكن لا يدل على [ ص: 190 ] ذلك دلالة قاطعة ، فإن التعبير بـ ثم يدل على الترتيب البياني في الذكر ولا يدل على الترتيب الواقعي ، فإن الآيات قد تدل على غيره ، وإنا نقرر أن الزمن لا يحكم أفعال الله تعالى ; . فكما أنه تعالى لا يكون في مكان ، فأفعاله تعالى فوق الأزمان
ولقد جاء النص الكريم بأن الأرض أخذت من السماء ، وكانتا رتقا ، أو شيئا واحدا ، كما قال تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون .
ولقد قال تعالى في بيان خلق السماء والأرض : قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم .
وقد يقال : إنك نفيت الزمان عن أفعال الله تعالى ، وقد ذكر سبحانه أنه خلق الأرض في يومين ، وأنه جعلها على ما هي عليه في أربعة أيام ، وأنه قضى السماوات في يومين ، فكيف تنفي الزمان عن خالق الزمان والليل والنهار ؟ ونقول في جواب ذلك : إن اليوم ليس هو اليوم الذي نعده بالغروب والشروق بأن تدور الأرض حول الشمس دورة تبتدئ بشروق الشمس ، وتنتهي بغروبها أو العكس ، فإن ذلك تقدير نسبي بين الأرض والشمس ، وما كانتا قد خلقتا ، كما يدل صريح القرآن ، إنما اليوم هنا المراد به الدور التكويني ، وإذا أردنا أن نتصور الدور التكويني ، فإننا نتصور على ضوء العلم أن الأرض انفصلت عن الكتلة الشمسية التي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما فهذا يوم ، أي دور تكويني ، هو دور انفصال الأرض عن الكتلة الشمسية .
[ ص: 191 ] وعند هذا الانفصال تكونت بإرادة الله تعالى وقدرته القاهرة ، وإرادته المسيطرة القشرة الأرضية ، وهذا هو اليوم الثاني ، أو الدور الثاني ، وقد بين سبحانه وتعالى ، الأدوار الأربعة بعد ذلك .
هذا وقبل أن ننتهي من القول تحت إشراق القرآن في بيان الخلق والتكوين ، نقول إن بعض المفسرين أو كثيرين منهم قال إن كلمة سبع سماوات ، لا يراد بها العدد المحدود المذكور ، إنما يراد بها الكثرة من الأعداد ، كما في قوله تعالى : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ، فإنه ليس المراد والله أعلم سبعة أبحر ، إنما المراد عدد من الأبحر كثير .
ومثله قوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فالسبع ، والسبعون يراد بها الكثرة ، ولا يراد بها عدد محدود بالسبعة أو السبعين .
وإن لذلك القول بجوار ما قلنا مكانه من الحق ، فإن السماء ذات أبراج ، وإن الشمس في أعلى طبقاتها ، وفوقها شموس ، وفي السديم علو لا يعلمه إلا الله تعالى .
ولقد ختم سبحانه وتعالى الآية الكونية بقوله تعالى : وهو بكل شيء عليم أي أن الله تعالى خالق الكون وربه ومدبر أمره عليم به علم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وعلم من أنشأ وكون وقدر ودبر ، وقد ابتدأ العبارة السامية ، بلفظ الجلاله لتربية المهابة في نفس التالي للكتاب ، وأكد علمه السرمدي ، بثلاثة مؤكدات : بالجملة الاسمية التي تدل على دوام العلم وثباته ; لأنه علم أزلي دائم لا يجري عليه ما يجري على الناس ، وأكده سبحانه وتعالى بذكر [ ص: 192 ] الإحاطة التامة بكل شيء ، وأكده سبحانه بذكر صفة من صفاته فقال : عليم ، سبحان من أحاط بكل شيء علما ، وسبحان من عنت له الوجوه .
* * *