[ ص: 21 ] (تمهيد )
كان أحب إلي منذ كنت طالبا علم القرآن ، ودراسة هذا الكتاب العظيم في بيانه المعجز الذي تحدى
العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا ، وتحدى الخليقة إلى اليوم فلن يستطيعوا أن يأتوا بمثله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
وهو يتحدى الفكر الإنساني ببلاغته ، ومعانيه ، وقصصه ، وشريعته ، وتوجيهه الأنظار إلى الكون بما فيه من ذكر السماوات والأرض ، وخلق الإنسان ، واختلاف ألوانه وألسنته ، والنفس الإنسانية في خواطرها ، وما يعليها ، وما يدسيها ، وسيطرة الخالق على ما خلق ، له الملك في السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير .
كنت طالبا بالأزهر ثم بمدرسة القضاء الشرعي ، وكنت أميل إلى علم تفسير القرآن ; يصغي قلبي إليه ، ويصبو فكري نحوه ، وذلك من بين علوم الإسلام وعلوم الحياة المختلفة التي كانت تدرس ، فكان لكل علم ناحية في نفسي ، أما علم القرآن فكان قلبي كله له .
ولما تخرجت في هذه المدرسة كان حب القرآن وعلوم القرآن مختلطا بنفسي ، ومن حسن المصادفات الموفقة أن يكون أول درس ألقيه ، بعد أن شددت في العلم ، هو القرآن .
لقد علمت أني عينت مدرسا بتجهيزية دار العلوم والقضاء الشرعي في يوم العاشر من أكتوبر سنة 1927 ، فلما ذهبت لأتسلم العمل في ذلك اليوم ، سلمني شيخنا العارف بالله المرحوم الأستاذ
حسن منصور الذي كان وكيلا لمدرسة القضاء الشرعي ، وأستاذ التفسير بها - سلمني الجدول ، وكله في مادة التفسير ، في السنة
[ ص: 22 ] الخامسة من التجهيزية ، ثم رئي أن يقسم بيني وبين أحد زملائي الكرام ، رحمه الله وطيب ثراه ، ومكثت أدرس التفسير بالتجهيزية سنتين ، وكان أحب إلي من أي عمل سواه ، انقطعت بعد ذلك عن هذا الدرس الحبيب بمقتضى سنة العمل في الحياة العلمية ، وشغلت بعلوم العربية وقتا غير طويل ، نحو ثلاث سنين ، ثم شغلت بالفقه في أطول مدة قضيتها . ولكني كنت على شوق إلى القرآن ، وكانت مجلة " لواء الإسلام " تنشر في كل عدد منها تفسيرا للقرآن ، وكان يتولاه الرجل المؤمن العارف بالله الشيخ
الخضر حسين ، وواصل تفسيره حتى وصل إلى قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194الشهر الحرام بالشهر الحرام ووقف عند هذه الآية ، لأسباب نفسية ، لم تكن من صاحب المجلة الرجل الطيب ، فاعتذر ، وطلب إلى أن أتمم ما بدأت ، وأيده صاحب المجلة فيما طلب ، فتوليت كتابة التفسير من هذه الآية راغبا دائبا ، فعدت إلى التفسير كما بدأت في حياتي العلمية ، واستمررت في هذا العمل المحبوب ، إلى أن منعت من التفسير ، ومن غيره بأمر طاغوتي بمن كان يحكم
مصر إبان ذلك ، وكنت قد وصلت إلى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=54وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم .
ولما تكشفت الغمة ، وزال الحكم الطاغوتي ، وزالت آثاره التي بقيت بعده شهورا ، وحملت القلم لأعود إلى أداء الواجب ، تعذر علي أن أقوم بواجبي مع الكرامة ، وكان لي ما كان للمرحوم
الخضر رضي الله عنه ، وقد ألح علي الكثيرون من أهل العلم وطلابه أن أتمم ما بدأت في " لواء الإسلام " ، وتكرر الطلب ، فوجدت أن من الواجب علي أن أقوم بكتابة التفسير مستعينا الله ، متوكلا عليه ، ضارعا إليه أن يمن بتوفيقه ، فلولا توفيقه ما اهتدينا إلى عمل ، وما أتممنا عملا بدأناه .
فابتدأت بكتابة الجزء الذي كتبه الإمام
الخضر ، ليكون التفسير كله نسقا واحدا ، وعلى منهاج واحد ، وها نحن أولاء نسير في الطريق ضارعين إليه سبحانه وتعالى أن نصل إلى الحق فيما نكتب .
[ ص: 23 ] (المنهاج الذي اتبعناه )
نحن ممن يتبعون إلى حد ما ; ما كان يقوله الأستاذ العظيم العبقري
عاطف بركات في أن القرآن كتاب مبين لا يحتاج إلى تفسير ، فإنه لا إبهام فيه يحتاج إلى توضيح ، وكل من يحاول توضيحه لا يصل إليه ، فمن ذا الذي يصل إلى آفاقه ، وممن كتب في تفسيره من الماضين من حجب معانيه بكثرة الأقوال المتعارضة والآراء المتباينة ، حتى أثار غبارا حجب عن الباحث نوره .
ولكن القرآن الكريم فيه فقه هذا الدين ، وفيه خبر من مضى ، وعلم الآخرين ، وفيه علم الكون والوجود الإنساني ، وفيه توجيه إلى مناحي الحياة ، وفيه القصص الحكيم ، وفيه أسماء الأماكن وإشارات إلى وقائع ، وفي الجملة فيه الكون والإنسان ، وهو فوق ذلك حمال للمعاني السليمة ، وفيه علوم الدولة والآحاد ، فلا بد من أن يتصدى لذلك أهل الخبرة في العلوم ، والفقه ، واللغة والبيان ، وإن كانوا لا يبلغون الغاية ، ولا ينالون مما يبغون الكفاية .
فلا بد أن يكون للقرآن تفسير تتولاه جماعة علمية ، من أولي العصبة من العلماء ، ولكن لا نجد التعاون العلمي الجماعي ، في الحاضر ، وقد حاولناه مع غيرنا ، ولم نجد ذلك التعاون في الماضي ، وإن وجدنا مخلصين لله وكتابه ، مستبحرين في علوم الآثار واللغة ، ويا حبذا لو أن هؤلاء اجتمعت آراؤهم ، وأضيف إليها ما يراه علماء الكون في آيات الله الكونية ، على ألا نطوع القرآن لنظرية مفروضة ، ولا أن نرهق ألفاظه لتحتمل نظرية لم يتحقق صدقها ، ولكن ليستعان به لتأييدها ، لا كأولئك الذين يرون صحة الفروض التي تقول بالنشوء والارتقاء ويريدون أن يؤيدوها من القرآن ، أو يحملوا ألفاظ القرآن لها ليروجوها !
اتجهنا إلى كتابة معاني القرآن ، كما ظهرت لنا ، وكما أدركت عقولنا ، وكما بلغته طاقتنا ، غير محملين وضعا ما لا يحتمل ، أو نطوعه لتفكير سيق إلينا ، ولسنا منكرين لما بذله العلماء الذين خصوا معاني القرآن بأكبر عناية ، بل إننا نجد فيما كتبوا أو نقل عنهم ذخيرتنا التي ندرع بها غير مفتاتين عليهم في قول ، ولا متهجمين
[ ص: 24 ] عليهم في رأي ، ومنهم من قام على الحق المبين ، أو يستمد قوته من أثر عن النبي
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يتجافى عن النص القرآني في ظاهره ونصه ، فإن جافاه حذفناه ، ونظرنا في ذلك هو نظر شيخ الفقهاء
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة النعمان فهو لا يقدم أثرا على نص قرآني ظاهر الدلالة أو هو نص فيه .
ولا نتهجم بذلك على حديث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الحكمة كلها كما قال ذلك الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، فقد فسر الحكمة في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151ويعلمكم الكتاب والحكمة بأن الحكمة هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا رددنا منها ما يخالف القرآن فنحن نرد ما يجعلها فوق القرآن ، وبالأحرى يكون ذلك تمحيصا للسنة ، وتبيينا لصحيحها من سقيمها ، إن عبارات القرآن التي هي نص في دلالتها ، ومعانيها ، فيها تنزيه لرسالة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتنزيه للبعث المحمدي ، فإنما ندفع الريب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نتهجم عليه ولا على حكمته ، كتلك الآثار التي توهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سحر ، وكتلك الأخبار الكاذبة التي تقول إن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - قال عن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى . إنا نرد هذا وأشباهه تنزيها للرسالة المحمدية الإلهية ، مهما يكن راويها من الثقة ، ونعدها عليه ، وليس بمنزه عن الخطأ والنسيان ، ودخول الغلط عليه ، وأخشى أن أقول إن من يعتقد ذلك يكون كأهل الجاهلية الذين قالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=47إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ، فليبحثوا عن موقفهم كمسلمين مؤمنين ، وذلك لأنهم آثروا راويا على القرآن وعلى الرسالة المحمدية كلها ، إذ جعلوا الشك يرد على بيانها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وإذا كنا قد رددنا بعض ما ينسب للرسول - صلى الله عليه وسلم - فنحن نعد المفسر الأول للقرآن هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فهو المفسر لأحكامه المبين لحقائقه ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44وأنـزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نـزل إليهم ولعلهم يتفكرون ، ولا نتصور أن نجد بيانا يفوق بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه يفصل مجمله ، ويبين ما يعلو على مدارك الناس ، وإن كان في ذاته مبينا ، ولا يصح أن نفتات على الإسلام فنرد قولا صح عن رسول
[ ص: 25 ] الله
محمد - صلى الله عليه وسلم - ما دام القرآن يتسع لمدلوله ، ولا نقدم عليه احتمالا آخر مهما تكن مكانة قائله من الفقه والبيان ، فإنه مهما يكن لا يناهد مقامه مقام مبلغ الرسالة في الإحكام ، ولا مقامه في البيان ، وإدراك معاني القرآن ، ولذا نعد السنة النبوية هي المفسر الأول .
ويلي ذلك تفسير الصحابة الذي صحت نسبته إليهم ، وخصوصا علماءهم ، والسابقين الأولين الذين قال تعالى عنهم في بيعة الرضوان :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=18لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنـزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا .
ونأخذ بأقوال هؤلاء على أساس ألا تخالف نصا قرآنيا ، أو تناهضه ، أو تحمله ما لا يحتمل ، وعلمهم بالقرآن أعظم من علمنا به ، إذ كانوا كما أشرنا من قبل أهل بيعة الرضوان ، لا الذين جاءوا بعد
الحديبية ، وكان بعض أولئك من الذين لهم جهاد مذكور مشهور ، لا يغض من مقامهم ، ولكن ليسوا حجة في فهم القرآن إلا من ناحية اللغة والبيان ، فإن ذوقهم العربي ربما يجعل لقولهم مكانا ، ولم يعن أحد من هؤلاء بالتفسير رواية أو دراية ، لأنهم شغلوا بغيره ، إلا ما كان من
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وأشباهه من شباب الصحابة الذين وعوا أفاويقه في آخر حياة الرسول ، ومنهم بعض من التزموا الرسول - صلى الله عليه وسلم .
فقد كان
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ترجمان القرآن كما عبر بعض علماء الصحابة ، وقد أخذ من علم كثير من الصحابة ، وخصوصا ابن عمه
nindex.php?page=showalam&ids=8عليا ، الذي قال فيه
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ما انتفعت بكلام بعد كلام
محمد - صلى الله عليه وسلم - كما انتفعت بكلام
nindex.php?page=showalam&ids=8علي كرم الله وجهه . فقد كان
nindex.php?page=showalam&ids=8علي أستاذه بعد المرشد الأكبر
محمد - صلى الله عليه وسلم .
وإن الصحابة علموا التابعين مما تعلموا من فهم القرآن وأولئك هم التابعون ، فما صح عن التابعين أهل الثقة الذين لازموا الصحابة واختزنوا علمهم ، وهو علم بنوه ونقلوه نقلا صحيحا أخذنا به . بيد أنه يجب الاحتراس عند الأخذ من الأقوال
[ ص: 26 ] المنسوبة للتابعين ; فإنه قد حدث في عهد التابعين أمران كانا سببا في دخول كلام في تفسير القرآن ليس منه ، ولا مقتبسا من روحه :
أولهما - دخول كلام من بني إسرائيل إلى العلم الإسلامي ونسبوه إلى التابعين على أنه من أقوالهم ، وقد روي أن بعض من ينسبون إلى صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - استهواه ما عند اليهود ، فنقله ، حتى إنه ليروى أن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص ، نقل في غزوة
اليرموك حمل راحلتين مما عند اليهود ، وتسرب إلى العقل الإسلامي ونسب إلى بعض التابعين ، بل إلى بعض الذين لهم صحبة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإن لم يكونوا من الرعيل الأول الذي حمل علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وما زال العلماء في هذا يعانون الكثير ، مما اختلط بالتفسير من الإسرائيليات ، ومحاولة رحض التفسير منها ، كما يرحض الثوب الأبيض الناصع من الأقذار التي علقت به .
وإذا كان اليهود عجزوا عجزا مطلقا عن أن يعبثوا بالقرآن كما عبثوا بغيره ، فإنهم أتوه من ناحية تفسيره ، ولكن ذلك لا يمسه ، بل يمس العقول التي لا تمحص ولا تدرك ، ولا تحكم بقرآن ، ومقاييس العقل ; ولذلك بقي النبع الإلهي الصافي يدركه من يتأمل ما أحيط به فينبذ الزيف ، ويدرك الجوهر الصافي .
ثانيهما - أنه في عهد الأمويين ، وهو عهد التابعين ، وجد من النصارى الذين كانوا في حاشية الأمويين من يعملون على بث الروايات الكاذبة حول القرآن ، وينسبونها للتابعين ، كما نرى في القصة المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زواجه بالسيدة أم المؤمنين
nindex.php?page=showalam&ids=15953زينب بنت جحش ، فقد ادعى النصارى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى
nindex.php?page=showalam&ids=15953زينب في حال أثارت عشقه ، فأمر
زيدا أن يطلقها ، وأن يتزوجها ، وبث هذا الادعاء فيهم
يوحنا الدمشقي الذي كان في خدمة الأمويين وراجت هذه الأكذوبة التي لا أصل لها إلا إفك هذا الأفاك ، ونقلت عن بعض التابعين ، وفسر بها قوله تعالى :
[ ص: 27 ] nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=36وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=38ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=40ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما
راجت هذه الأكذوبة بين المفسرين الذين يتلقون الأخبار من غير تمحيص لذاتها ، ولا تعرف دقيق لمصادرها . ووقع فيها شيخ المؤرخين والمفسرين
nindex.php?page=showalam&ids=16935محمد بن جرير الطبري ، وتكلف وخرج عليها تفسير هذه الآيات الكريمة ، وتبعه في ذلك المفسرون ، حتى الذين من شأنهم أن يمحصوا الحقائق
nindex.php?page=showalam&ids=14423كالزمخشري والرازي وغيرهما ، وتلقاها الذين لا يرجون للقرآن ولا
لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقارا في عصرنا ، فكتب كاتب في كتاب له " محمد العاشق " وتبعه غيره من تلاميذه أو أشباهه الذين لا يمحصون الحقائق وليس للحقائق الإسلامية في قلوبهم روعة تدفعهم إلى التمحيص ، وخاض كل المفسرين الذين كانوا قبل الحافظ
ابن كثير ، الذي ردها ومحصها ونقد
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الذي خاض فيها ، وأثبت أنه لا توجد رواية عن الصحابة في هذا صحيحة أو غير صحيحة .
وظواهر النص القرآني ، ومعانيه تنافيها جميعا ، وصريح القرآن يردها ، فالله تعالى يحكي أن زواجها كان بأمر من الله تعالى ، ويخبر أن طلاقها كان بأمر من الله ، فالله يصرح بأن الأمر كان الحرج من المسلمين في تزوج زوجة المتبنى ، فيقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=4ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=5ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما [ ص: 28 ] ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كان قد تبنى
nindex.php?page=showalam&ids=138زيد بن حارثة ، وتزوج
زيد nindex.php?page=showalam&ids=15953زينب على أنه ابنه - صلى الله عليه وسلم - ، فلما ألغي التبني بحكم الإسلام تململت به ، وتململ من كبريائها ، فأراد أن يطلقها ، فقال له
محمد الأمين - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر القرآن :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه ، وهو إرادة الله في الطلاق ، وتزويجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال سبحانه :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا
، وسنبين ذلك أفضل بيان عندما نتكلم في معاني هذه الآيات إن شاء الله تعالى .
* * *
[ ص: 21 ] (تَمْهِيدٌ )
كَانَ أَحَبُّ إِلَيَّ مُنْذُ كُنْتُ طَالِبًا عِلْمَ الْقُرْآنِ ، وَدِرَاسَةَ هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ فِي بَيَانِهِ الْمُعْجِزِ الَّذِي تَحَدَّى
الْعَرَبَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا ، وَتَحَدَّى الْخَلِيقَةَ إِلَى الْيَوْمِ فَلَنْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا .
وَهُوَ يَتَحَدَّى الْفِكْرَ الْإِنْسَانِيَّ بِبَلَاغَتِهِ ، وَمَعَانِيهِ ، وَقَصَصِهِ ، وَشَرِيعَتِهِ ، وَتَوْجِيهِهِ الْأَنْظَارَ إِلَى الْكَوْنِ بِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَخَلْقِ الْإِنْسَانِ ، وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَأَلْسِنَتِهِ ، وَالنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي خَوَاطِرِهَا ، وَمَا يُعْلِيهَا ، وَمَا يُدَسِّيهَا ، وَسَيْطَرَةِ الْخَالِقِ عَلَى مَا خَلَقَ ، لَهُ الْمُلْكُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
كُنْتُ طَالِبًا بِالْأَزْهَرِ ثُمَّ بِمَدْرَسَةِ الْقَضَاءِ الشَّرْعِيِّ ، وَكُنْتُ أَمِيلُ إِلَى عِلْمِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ ; يُصْغِي قَلْبِي إِلَيْهِ ، وَيَصْبُو فِكْرِي نَحْوَهُ ، وَذَلِكَ مِنْ بَيْنِ عُلُومِ الْإِسْلَامِ وَعُلُومِ الْحَيَاةِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي كَانَتْ تُدَرَّسُ ، فَكَانَ لِكُلِّ عِلْمٍ نَاحِيَةٌ فِي نَفْسِي ، أَمَّا عِلْمُ الْقُرْآنِ فَكَانَ قَلْبِي كُلُّهُ لَهُ .
وَلَمَّا تَخَرَّجْتُ فِي هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ كَانَ حُبُّ الْقُرْآنِ وَعُلُومِ الْقُرْآنِ مُخْتَلِطًا بِنَفْسِي ، وَمِنْ حُسْنِ الْمُصَادَفَاتِ الْمُوَفَّقَةِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ دَرْسٍ أُلْقِيهِ ، بَعْدَ أَنْ شَدَدْتُ فِي الْعِلْمِ ، هُوَ الْقُرْآنُ .
لَقَدْ عَلِمْتُ أَنِّي عُيِّنْتُ مُدَرِّسًا بِتَجْهِيزِيَّةِ دَارِ الْعُلُومِ وَالْقَضَاءِ الشَّرْعِيِّ فِي يَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ أُكْتُوبَرَ سَنَةَ 1927 ، فَلَمَّا ذَهَبْتُ لِأَتَسَلَّمَ الْعَمَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، سَلَّمَنِي شَيْخُنَا الْعَارِفُ بِاللَّهِ الْمَرْحُومُ الْأُسْتَاذُ
حَسَنٌ مَنْصُورٌ الَّذِي كَانَ وَكَيْلًا لِمَدْرَسَةِ الْقَضَاءِ الشَّرْعِيِّ ، وَأُسْتَاذَ التَّفْسِيرِ بِهَا - سَلَّمَنِي الْجَدْوَلَ ، وَكُلُّهُ فِي مَادَّةِ التَّفْسِيرِ ، فِي السَّنَةِ
[ ص: 22 ] الْخَامِسَةِ مِنَ التَّجْهِيزِيَّةِ ، ثُمَّ رُئِيَ أَنْ يُقَسَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدِ زُمَلَائِي الْكِرَامِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَطَيَّبَ ثَرَاهُ ، وَمَكَثْتُ أُدَرِّسُ التَّفْسِيرَ بِالتَّجْهِيزِيَّةِ سَنَتَيْنِ ، وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَيِّ عَمَلٍ سِوَاهُ ، انْقَطَعْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذَا الدَّرْسِ الْحَبِيبِ بِمُقْتَضَى سُنَّةِ الْعَمَلِ فِي الْحَيَاةِ الْعِلْمِيَّةِ ، وَشُغِلْتُ بِعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَقْتًا غَيْرَ طَوِيلٍ ، نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ ، ثُمَّ شُغِلْتُ بِالْفِقْهِ فِي أَطْوَلِ مُدَّةٍ قَضَيْتُهَا . وَلَكِنِّي كُنْتُ عَلَى شَوْقٍ إِلَى الْقُرْآنِ ، وَكَانَتْ مَجَلَّةُ " لِوَاءِ الْإِسْلَامِ " تَنْشُرُ فِي كُلِّ عَدَدٍ مِنْهَا تَفْسِيرًا لِلْقُرْآنِ ، وَكَانَ يَتَوَلَّاهُ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ بِاللَّهِ الشَّيْخُ
الْخَضِرُ حُسَيْنٌ ، وَوَاصَلَ تَفْسِيرَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=194الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَوَقَفَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ، لِأَسْبَابٍ نَفْسِيَّةٍ ، لَمْ تَكُنْ مِنْ صَاحِبِ الْمَجَلَّةِ الرَّجُلِ الطَّيِّبِ ، فَاعْتَذَرَ ، وَطَلَبَ إِلَى أَنْ أُتَمِّمَ مَا بَدَأْتُ ، وَأَيَّدَهُ صَاحِبُ الْمَجَلَّةِ فِيمَا طَلَبَ ، فَتَوَلَّيْتُ كِتَابَةَ التَّفْسِيرِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ رَاغِبًا دَائِبًا ، فَعُدْتُ إِلَى التَّفْسِيرِ كَمَا بَدَأْتُ فِي حَيَاتِي الْعِلْمِيَّةِ ، وَاسْتَمْرَرْتُ فِي هَذَا الْعَمَلِ الْمَحْبُوبِ ، إِلَى أَنْ مُنِعْتُ مِنَ التَّفْسِيرِ ، وَمِنْ غَيْرِهِ بِأَمْرٍ طَاغُوتِيٍّ بِمَنْ كَانَ يَحْكُمُ
مِصْرَ إِبَّانَ ذَلِكَ ، وَكُنْتُ قَدْ وَصَلْتُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=54وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وَلَمَّا تَكَشَّفَتِ الْغُمَّةُ ، وَزَالَ الْحُكْمُ الطَّاغُوتِيُّ ، وَزَالَتْ آثَارُهُ الَّتِي بَقِيَتْ بَعْدَهُ شُهُورًا ، وَحَمَلْتُ الْقَلَمَ لِأَعُودَ إِلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ ، تَعَذَّرَ عَلَيَّ أَنْ أَقْوَمَ بِوَاجِبِي مَعَ الْكَرَامَةِ ، وَكَانَ لِي مَا كَانَ لِلْمَرْحُومِ
الْخَضِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ أَلَحَّ عَلَيَّ الْكَثِيرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَطُلَّابِهِ أَنْ أُتَمِّمَ مَا بَدَأْتُ فِي " لِوَاءِ الْإِسْلَامِ " ، وَتَكَرَّرَ الطَّلَبُ ، فَوَجَدْتُ أَنَّ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيَّ أَنْ أَقْوَمَ بِكِتَابَةِ التَّفْسِيرِ مُسْتَعِينًا اللَّهَ ، مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ ، ضَارِعًا إِلَيْهِ أَنْ يَمُنَّ بِتَوْفِيقِهِ ، فَلَوْلَا تَوْفِيقُهُ مَا اهْتَدَيْنَا إِلَى عَمَلٍ ، وَمَا أَتْمَمْنَا عَمَلًا بَدَأْنَاهُ .
فَابْتَدَأْتُ بِكِتَابَةِ الْجُزْءِ الَّذِي كَتَبَهُ الْإِمَامُ
الْخَضِرُ ، لِيَكُونَ التَّفْسِيرُ كُلُّهُ نَسَقًا وَاحِدًا ، وَعَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ ، وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ ضَارِعِينَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ نَصِلَ إِلَى الْحَقِّ فِيمَا نَكْتُبُ .
[ ص: 23 ] (الْمِنْهَاجُ الَّذِي اتَّبَعْنَاهُ )
نَحْنُ مِمَّنْ يَتَّبِعُونَ إِلَى حَدٍّ مَا ; مَا كَانَ يَقُولُهُ الْأُسْتَاذُ الْعَظِيمُ الْعَبْقَرِيُّ
عَاطِفٌ بَرَكَاتٌ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابٌ مُبِينٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ ، فَإِنَّهُ لَا إِبْهَامَ فِيهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْضِيحٍ ، وَكُلُّ مَنْ يُحَاوِلُ تَوْضِيحَهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَصِلُ إِلَى آفَاقِهِ ، وَمِمَّنْ كَتَبَ فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ الْمَاضِينَ مَنْ حَجَبَ مَعَانِيَهُ بِكَثْرَةِ الْأَقْوَالِ الْمُتَعَارِضَةِ وَالْآرَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ ، حَتَّى أَثَارَ غُبَارًا حَجَبَ عَنِ الْبَاحِثِ نُورَهُ .
وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ فِيهِ فِقْهُ هَذَا الدِّينِ ، وَفِيهِ خَبَرُ مَنْ مَضَى ، وَعِلْمُ الْآخِرِينَ ، وَفِيهِ عِلْمُ الْكَوْنِ وَالْوُجُودِ الْإِنْسَانِيِّ ، وَفِيهِ تَوْجِيهٌ إِلَى مَنَاحِي الْحَيَاةِ ، وَفِيهِ الْقَصَصُ الْحَكِيمُ ، وَفِيهِ أَسْمَاءُ الْأَمَاكِنِ وَإِشَارَاتٌ إِلَى وَقَائِعَ ، وَفِي الْجُمْلَةِ فِيهِ الْكَوْنُ وَالْإِنْسَانُ ، وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ حَمَّالٌ لِلْمَعَانِي السَّلِيمَةِ ، وَفِيهِ عُلُومُ الدَّوْلَةِ وَالْآحَادِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّى لِذَلِكَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِي الْعُلُومِ ، وَالْفِقْهِ ، وَاللُّغَةِ وَالْبَيَانِ ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَبْلُغُونَ الْغَايَةَ ، وَلَا يَنَالُونَ مِمَّا يَبْغُونَ الْكِفَايَةَ .
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلْقُرْآنِ تَفْسِيرٌ تَتَوَلَّاهُ جَمَاعَةٌ عِلْمِيَّةٌ ، مِنْ أُولِي الْعَصَبَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَلَكِنْ لَا نَجِدُ التَّعَاوُنَ الْعِلْمِيَّ الْجَمَاعِيَّ ، فِي الْحَاضِرِ ، وَقَدْ حَاوَلْنَاهُ مَعَ غَيْرِنَا ، وَلَمْ نَجِدْ ذَلِكَ التَّعَاوُنَ فِي الْمَاضِي ، وَإِنْ وَجَدْنَا مُخْلِصِينَ لِلَّهِ وَكِتَابِهِ ، مُسْتَبْحِرِينَ فِي عُلُومِ الْآثَارِ وَاللُّغَةِ ، وَيَا حَبَّذَا لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ اجْتَمَعَتْ آرَاؤُهُمْ ، وَأُضِيفَ إِلَيْهَا مَا يَرَاهُ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْكَوْنِيَّةِ ، عَلَى أَلَّا نُطَوِّعَ الْقُرْآنَ لِنَظَرِيَّةٍ مَفْرُوضَةٍ ، وَلَا أَنْ نُرْهِقَ أَلْفَاظَهُ لِتَحْتَمِلَ نَظَرِيَّةً لَمْ يَتَحَقَّقْ صِدْقُهَا ، وَلَكِنْ لِيُسْتَعَانَ بِهِ لِتَأْيِيدِهَا ، لَا كَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَرَوْنَ صِحَّةَ الْفُرُوضِ الَّتِي تَقُولُ بِالنُّشُوءِ وَالِارْتِقَاءِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُؤَيِّدُوهَا مِنَ الْقُرْآنِ ، أَوْ يَحْمِلُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ لَهَا لِيُرَوِّجُوهَا !
اتَّجَهْنَا إِلَى كِتَابَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ ، كَمَا ظَهَرَتْ لَنَا ، وَكَمَا أَدْرَكَتْ عُقُولُنَا ، وَكَمَا بَلَّغَتْهُ طَاقَتُنَا ، غَيْرَ مُحَمِّلِينَ وَضْعًا مَا لَا يَحْتَمِلُ ، أَوْ نُطَوِّعُهُ لِتَفْكِيرٍ سِيقَ إِلَيْنَا ، وَلَسْنَا مُنْكِرِينَ لِمَا بَذَلَهُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ خَصُّوا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ بِأَكْبَرِ عِنَايَةٍ ، بَلْ إِنَّنَا نَجِدُ فِيمَا كَتَبُوا أَوْ نُقِلَ عَنْهُمْ ذَخِيرَتَنَا الَّتِي نَدَّرِعُ بِهَا غَيْرَ مُفْتَاتِينَ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلٍ ، وَلَا مُتَهَجِّمِينَ
[ ص: 24 ] عَلَيْهِمْ فِي رَأْيٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَامَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ، أَوْ يَسْتَمِدُّ قُوَّتَهُ مِنْ أَثَرٍ عَنِ النَّبِيِّ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَا يَتَجَافَى عَنِ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ فِي ظَاهِرِهِ وَنَصِّهِ ، فَإِنْ جَافَاهُ حَذَفْنَاهُ ، وَنَظَرُنَا فِي ذَلِكَ هُوَ نَظَرُ شَيْخِ الْفُقَهَاءِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ فَهُوَ لَا يُقَدِّمُ أَثَرًا عَلَى نَصٍّ قُرْآنِيٍّ ظَاهِرِ الدَّلَالَةِ أَوْ هُوَ نَصٌّ فِيهِ .
وَلَا نَتَهَجَّمُ بِذَلِكَ عَلَى حَدِيثٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَهُوَ الْحِكْمَةُ كُلُّهَا كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ ، فَقَدْ فَسَّرَ الْحِكْمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَإِذَا رَدَدْنَا مِنْهَا مَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَنَحْنُ نَرُدُّ مَا يَجْعَلُهَا فَوْقَ الْقُرْآنِ ، وَبِالْأَحْرَى يَكُونُ ذَلِكَ تَمْحِيصًا لِلسُّنَّةِ ، وَتَبْيِينًا لِصَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا ، إِنَّ عِبَارَاتِ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي دَلَالَتِهَا ، وَمَعَانِيهَا ، فِيهَا تَنْزِيهٌ لِرِسَالَةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَتَنْزِيهٌ لِلْبَعْثِ الْمُحَمَّدِيِّ ، فَإِنَّمَا نَدْفَعُ الرَّيْبَ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَا نَتَهَجَّمُ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى حِكْمَتِهِ ، كَتِلْكَ الْآثَارِ الَّتِي تُوهِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُحِرَ ، وَكَتِلْكَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ الَّتِي تَقُولُ إِنَّ
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ عَنِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى : تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا ، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى . إِنَّا نَرُدُّ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ تَنْزِيهًا لِلرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ ، مَهْمَا يَكُنْ رَاوِيهَا مِنَ الثِّقَةِ ، وَنَعُدُّهَا عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ بِمُنَزَّهٍ عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ، وَدُخُولِ الْغَلَطِ عَلَيْهِ ، وَأَخْشَى أَنْ أَقُولَ إِنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ يَكُونُ كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=47إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ، فَلْيَبْحَثُوا عَنْ مَوْقِفِهِمْ كَمُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ آثَرُوا رَاوِيًا عَلَى الْقُرْآنِ وَعَلَى الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كُلِّهَا ، إِذْ جَعَلُوا الشَّكَّ يَرِدُ عَلَى بَيَانِهَا ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ .
وَإِذَا كُنَّا قَدْ رَدَدْنَا بَعْضَ مَا يُنْسَبُ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَحْنُ نَعُدُّ الْمُفَسِّرَ الْأَوَّلَ لِلْقُرْآنِ هُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَهُوَ الْمُفَسِّرُ لِأَحْكَامِهِ الْمُبَيِّنُ لِحَقَائِقِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ، وَلَا نَتَصَوَّرُ أَنْ نَجِدَ بَيَانًا يَفُوقُ بَيَانَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّهُ يُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ ، وَيُبَيِّنُ مَا يَعْلُو عَلَى مَدَارِكِ النَّاسِ ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَاتِهِ مُبَيَّنًا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ نَفْتَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَرُدَّ قَوْلًا صَحَّ عَنْ رَسُولِ
[ ص: 25 ] اللَّهِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا دَامَ الْقُرْآنُ يَتَّسِعُ لِمَدْلُولِهِ ، وَلَا نُقَدِّمُ عَلَيْهِ احْتِمَالًا آخَرَ مَهْمَا تَكُنْ مَكَانَةُ قَائِلِهِ مِنَ الْفِقْهِ وَالْبَيَانِ ، فَإِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ لَا يُنَاهِدُ مَقَامُهُ مَقَامَ مُبَلِّغِ الرِّسَالَةِ فِي الْإِحْكَامِ ، وَلَا مَقَامَهُ فِي الْبَيَانِ ، وَإِدْرَاكِ مَعَانِي الْقُرْآنِ ، وَلِذَا نُعِدُّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ هِيَ الْمُفَسِّرَ الْأَوَّلَ .
وَيَلِي ذَلِكَ تَفْسِيرُ الصَّحَابَةِ الَّذِي صَحَّتْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِمْ ، وَخُصُوصًا عُلَمَاءَهُمْ ، وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=18لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْـزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا .
وَنَأْخُذُ بِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ عَلَى أَسَاسِ أَلَّا تُخَالِفَ نَصًّا قُرْآنِيًّا ، أَوْ تُنَاهِضَهُ ، أَوْ تُحَمِّلَهُ مَا لَا يَحْتَمِلُ ، وَعِلْمُهُمْ بِالْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ عِلْمِنَا بِهِ ، إِذْ كَانُوا كَمَا أَشَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ ، لَا الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ
الْحُدَيْبِيَةِ ، وَكَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ مِنَ الَّذِينَ لَهُمْ جِهَادٌ مَذْكُورٌ مَشْهُورٌ ، لَا يَغُضُّ مِنْ مَقَامِهِمْ ، وَلَكِنْ لَيْسُوا حُجَّةً فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ إِلَّا مِنْ نَاحِيَةِ اللُّغَةِ وَالْبَيَانِ ، فَإِنَّ ذَوْقَهُمُ الْعَرَبِيَّ رُبَّمَا يَجْعَلُ لِقَوْلِهِمْ مَكَانًا ، وَلَمْ يُعْنَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالتَّفْسِيرِ رِوَايَةً أَوْ دِرَايَةً ، لِأَنَّهُمْ شُغِلُوا بِغَيْرِهِ ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَشْبَاهِهِ مِنْ شَبَابِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ وَعَوْا أَفَاوِيقَهُ فِي آخِرِ حَيَاةِ الرَّسُولِ ، وَمِنْهُمْ بَعْضُ مَنِ الْتَزَمُوا الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَدْ كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ كَمَا عَبَّرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ ، وَقَدْ أَخَذَ مِنْ عِلْمِ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَخُصُوصًا ابْنَ عَمِّهِ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيًّا ، الَّذِي قَالَ فِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا انْتَفَعْتُ بِكَلَامٍ بَعْدَ كَلَامِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا انْتَفَعْتُ بِكَلَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ . فَقَدْ كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٌّ أُسْتَاذَهُ بَعْدَ الْمُرْشِدِ الْأَكْبَرِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِنَّ الصَّحَابَةَ عَلَّمُوا التَّابِعِينَ مِمَّا تَعَلَّمُوا مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَأُولَئِكَ هُمُ التَّابِعُونَ ، فَمَا صَحَّ عَنِ التَّابِعِينَ أَهْلِ الثِّقَةِ الَّذِينَ لَازَمُوا الصَّحَابَةَ وَاخْتَزَنُوا عِلْمَهُمْ ، وَهُوَ عِلْمٌ بَنَوْهُ وَنَقَلُوهُ نَقْلًا صَحِيحًا أَخَذْنَا بِهِ . بَيْدَ أَنَّهُ يَجِبُ الِاحْتِرَاسُ عِنْدَ الْأَخْذِ مِنَ الْأَقْوَالِ
[ ص: 26 ] الْمَنْسُوبَةِ لِلتَّابِعِينَ ; فَإِنَّهُ قَدْ حَدَثَ فِي عَهْدِ التَّابِعِينَ أَمْرَانِ كَانَا سَبَبًا فِي دُخُولِ كَلَامٍ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْهُ ، وَلَا مُقْتَبَسًا مِنْ رُوحِهِ :
أَوَّلُهُمَا - دُخُولُ كَلَامٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْعِلْمِ الْإِسْلَامِيِّ وَنَسَبُوهُ إِلَى التَّابِعِينَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ ، وَقَدْ رُوِي أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُونَ إِلَى صُحْبَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَهْوَاهُ مَا عِنْدَ الْيَهُودِ ، فَنَقَلَهُ ، حَتَّى إِنَّهُ لِيُرْوَى أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، نَقَلَ فِي غَزْوَةِ
الْيَرْمُوكِ حِمْلَ رَاحِلَتَيْنِ مِمَّا عِنْدَ الْيَهُودِ ، وَتَسَرَّبَ إِلَى الْعَقْلِ الْإِسْلَامِيِّ وَنُسِبَ إِلَى بَعْضِ التَّابِعِينَ ، بَلْ إِلَى بَعْضِ الَّذِينَ لَهُمْ صُحْبَةٌ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَمَلَ عِلْمَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا يُعَانُونَ الْكَثِيرَ ، مِمَّا اخْتَلَطَ بِالتَّفْسِيرِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ ، وَمُحَاوَلَةِ رَحْضِ التَّفْسِيرِ مِنْهَا ، كَمَا يُرْحَضُ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ النَّاصِعُ مِنَ الْأَقْذَارِ الَّتِي عَلِقَتْ بِهِ .
وَإِذَا كَانَ الْيَهُودُ عَجَزُوا عَجْزًا مُطْلَقًا عَنْ أَنْ يَعْبَثُوا بِالْقُرْآنِ كَمَا عَبَثُوا بِغَيْرِهِ ، فَإِنَّهُمْ أَتَوْهُ مِنْ نَاحِيَةِ تَفْسِيرِهِ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمَسُّهُ ، بَلْ يَمَسُّ الْعُقُولَ الَّتِي لَا تُمَحِّصُ وَلَا تُدْرِكُ ، وَلَا تَحْكُمُ بِقُرْآنٍ ، وَمَقَايِيسِ الْعَقْلِ ; وَلِذَلِكَ بَقِيَ النَّبْعُ الْإِلَهِيُّ الصَّافِي يُدْرِكُهُ مَنْ يَتَأَمَّلُ مَا أُحِيطَ بِهِ فَيَنْبِذُ الزَّيْفَ ، وَيُدْرِكُ الْجَوْهَرَ الصَّافِيَ .
ثَانِيهِمَا - أَنَّهُ فِي عَهْدِ الْأُمَوِيِّينَ ، وَهُوَ عَهْدُ التَّابِعِينَ ، وُجِدَ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا فِي حَاشِيَةِ الْأُمَوِيِّينَ مَنْ يَعْمَلُونَ عَلَى بَثِّ الرِّوَايَاتِ الْكَاذِبَةِ حَوْلَ الْقُرْآنِ ، وَيَنْسُبُونَهَا لِلتَّابِعِينَ ، كَمَا نَرَى فِي الْقِصَّةِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَوَاجِهِ بِالسَّيِّدَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
nindex.php?page=showalam&ids=15953زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، فَقَدِ ادَّعَى النَّصَارَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى
nindex.php?page=showalam&ids=15953زَيْنَبَ فِي حَالٍ أَثَارَتْ عِشْقَهُ ، فَأَمَرَ
زَيْدًا أَنْ يُطَلِّقَهَا ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَبَثَّ هَذَا الِادِّعَاءَ فِيهِمْ
يُوحَنَّا الدِّمَشْقِيُّ الَّذِي كَانَ فِي خِدْمَةِ الْأُمَوِيِّينَ وَرَاجَتْ هَذِهِ الْأُكْذُوبَةُ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا إِلَّا إِفْكُ هَذَا الْأَفَّاكِ ، وَنُقِلَتْ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ ، وَفُسِّرَ بِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى :
[ ص: 27 ] nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=36وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=38مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=39الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=40مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
رَاجَتْ هَذِهِ الْأُكْذُوبَةُ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَ الْأَخْبَارَ مِنْ غَيْرِ تَمْحِيصٍ لِذَاتِهَا ، وَلَا تَعَرُّفٍ دَقِيقٍ لِمَصَادِرِهَا . وَوَقَعَ فِيهَا شَيْخُ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ، وَتَكَلَّفَ وَخَرَّجَ عَلَيْهَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ ، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ ، حَتَّى الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُمَحِّصُوا الْحَقَائِقَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالرَّازِيِّ وَغَيْرِهِمَا ، وَتَلَقَّاهَا الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِلْقُرْآنِ وَلَا
لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَارًا فِي عَصْرِنَا ، فَكَتَبَ كَاتِبٌ فِي كِتَابٍ لَهُ " مُحَمَّدٌ الْعَاشِقُ " وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ مِنْ تَلَامِيذِهِ أَوْ أَشْبَاهِهِ الَّذِينَ لَا يُمَحِّصُونَ الْحَقَائِقَ وَلَيْسَ لِلْحَقَائِقِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ رَوْعَةٌ تَدْفَعُهُمْ إِلَى التَّمْحِيصِ ، وَخَاضَ كُلُّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْحَافِظِ
ابْنِ كَثِيرٍ ، الَّذِي رَدَّهَا وَمَحَّصَهَا وَنَقَدَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنَ جَرِيرٍ الَّذِي خَاضَ فِيهَا ، وَأَثْبَتَ أَنَّهُ لَا تُوجَدُ رِوَايَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا صَحِيحَةٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحَةٍ .
وَظَوَاهِرُ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ ، وَمَعَانِيهِ تُنَافِيهَا جَمِيعًا ، وَصَرِيحُ الْقُرْآنِ يَرُدُّهَا ، فَاللَّهُ تَعَالَى يَحْكِي أَنَّ زَوَاجَهَا كَانَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيُخْبِرُ أَنَّ طَلَاقَهَا كَانَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ ، فَاللَّهُ يُصَرِّحُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَانَ الْحَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي تَزَوُّجِ زَوْجَةِ الْمُتَبَنَّى ، فَيَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=4مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=5ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [ ص: 28 ] وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ تَبَنَّى
nindex.php?page=showalam&ids=138زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، وَتَزَوَّجَ
زِيدٌ nindex.php?page=showalam&ids=15953زَيْنَبَ عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَلَمَّا أُلْغِيَ التَّبَنِّي بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ تَمَلْمَلَتْ بِهِ ، وَتَمَلْمَلَ مِنْ كِبْرِيَائِهَا ، فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ، فَقَالَ لَهُ
مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ، وَهُوَ إِرَادَةُ اللَّهِ فِي الطَّلَاقِ ، وَتَزْوِيجُهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=37فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا
، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ أَفْضَلَ بَيَانٍ عِنْدَمَا نَتَكَلَّمُ فِي مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
* * *