فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا في هذا النص السامي بيان والأدلة على قدمه وبركته؛ ومعنى النص الكريم: فيه علامات واضحة تبين شرف منزلته وقدمه وطهارته، وفيض الله سبحانه وتعالى عليه بالنور وأسباب الهداية، وأنه لا بيت يدانيه في منزلته عند الله، وإن كان هذا البيت الآخر تشد إليه الرحال . وقد قالوا: إن قوله تعالى: عظمة البيت الحرام، ومكانته مقام إبراهيم بيان لهذه الآيات البينات، ويصح أن نعتبرها وحدها بيان هذه الآيات من حيث الدلالة على قدمه، وأن بانيه إبراهيم، وأن آثار أقدامه واضحة خالدة فيه، وقد وضح هذا المعنى أتم توضيح فقال: فإن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت: فيه وجهان؛ أحدهما: أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة، لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ونبوة الزمخشري إبراهيم عليه السلام، ومن تأثير قدمه في حجر صلد. . والثاني: اشتماله على آيات كثيرة؛ لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف السنين آية.
وهذا الكلام على اعتبار أن إبراهيم هو موضع الآيات البينات ولكن الذي نراه وقد ذكره مقام أيضا أن هذه الآيات البينات ليست مقام الزمخشري إبراهيم [ ص: 1324 ] وحده، ولكنها مقام إبراهيم وكونه أمن الناس ومثابتهم، وكونه المكان الذي يحج إليه المسلمون إلى اليوم، وكان العرب يحجون إليه ويقومون بكثير من المناسك، وإن خالطوها بشرك.
ولقد ذكر سبحانه الآية الثانية البينة لمقام البيت عند الله تعالى وعند العالمين بقوله: ومن دخله كان آمنا أي: آمنا من الأذى والقتل. وهذه آية لا شك فيها، فالعرب كانوا يحترمونه كما نوهنا، وكانت هذه نعمة أنعم الله بها عليهم، وبقيت حتى في شركهم؛ ولذا يقول سبحانه: أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وأنعم عليهم سبحانه بأن حماه من كل من يغير عليه معتديا. حتى إن أبرهة عندما أغار بجيشه وأفياله ليهدمه، ارتد خاسئا كما قال تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول
وتلك آية من آيات الله الكبرى في البيت.
ولقد حماه الله سبحانه وتعالى في الإسلام، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما فتح مكة احترم أمنها فكان مناديه ينادي: فهو آمن، ومن دخل البيت الحرام فهو آمن أبي سفيان ووصف يوم الفتح بقوله: " من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار " . هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا هذه آية لتعظيم الله سبحانه وتعالى شأن بيته المقدس، وحرمه الآمن إلى يوم القيامة، وذلك أنه [ ص: 1325 ] سبحانه فرض الحج إليه على من يستطيع، وجعله موضع المؤتمر الإسلامي الأكبر، كما قال تعالى: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق والحج بالمعنى الشرعي هو القصد إلى أداء المناسك ونية العبادة به، وهو في أصل معناه اللغوي القصد المجرد إلى مكان معين، وتقرأ كلمة " حج " بفتح الحاء، وهي لغة أهل الحجاز وبها قرأ أكثر القراء، وبكسر الحاء وبها قرأ الكسائي وحفص .
وقوله تعالى: من استطاع إليه سبيلا بدل من " الناس " ، فالفرضية العينية منصبة على من يستطيع دون غيره ولكن تصدير الكلام بإضافة الفرضية إلى الناس، ثم البدل منهم بالمستطيعين يدل على أن عامة المسلمين عليه فرضية عامة، وإن لم تكن كفرضية المستطيعين، وهذه الفرضية نفسرها بأمرين.
أولهما: بالتكليف العام الذي يدخل في عموم فروض الكفاية، بمعنى أن ويبتغي بها مرضاة الله تعالى؛ فعلى ولي الأمر الذي يمثل جماعة المؤمنين أن يسهل هذه الفريضة لطلابها؛ وعلى جماعة المؤمنين أن يعملوا على إقامتها كل في طاقته وفي حدود قدرته. عامة المؤمنين عليهم أن يسهلوا تلك الفريضة على من يريدها ويستطيعها،
وثانيهما: ما يقرره الفقهاء من أن أصل الوجوب ثابت ما دام الشخص مكلفا؛ ولكن وجوب الأداء هو الذي يشترط فيه الاستطاعة. فمن لا يستطيع هذا العام قد يستطيع في قابل وهكذا.
ولذلك قال النص الكريم: والاستطاعة التي توجب فرضية الأداء هي الحد الأدنى من الاستطاعة، من استطاع إليه سبيلا [ ص: 1326 ] أي استطاع بأي سبيل للوصول إلى الحج، فليست الاستطاعة الموجبة للحج هي الاستطاعة الواسعة المعنى التي لا تكون إلا للأغنياء، ولذا فسرها الفقهاء بالقدرة البدنية، والقدرة على الزاد والراحلة أي: ما يمكن أن يصل به؛ ولا بد أن يكون ذلك فاضلا عن حاجاته الأصلية وعمن يقوتهم، فإن ترك من يقوتهم بلا مال إثم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " .
والفرض لا يؤدى بالإثم. ألا تكون ذات أطفال صغار يخشى عليهم الضيعة إن تركت حضانتهم ولا حاضن لهم سواها، كما أن من استطاعتها أن يكون معها زوجها أو ذو رحم محرم منها. ومن استطاعة المرأة
والحج عند الأكثرين فرض على التراخي، ولكن المالكية يقررون أنه لا يسع من تجاوز الستين أن يؤخر عن قدرة، وإن كان أصل التراخي ثابتا لصريح الآثار الواردة في ذلك، والحج هو مؤتمر الإسلام الأكبر، وقد بيناه مرارا. والحج فرض مرة واحدة في العمر،
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين في معنى هذا النص اتجاهان؛ أحدهما: أن يكون الكلام في تارك الحج. ويكون المعنى: من فقد كفر وأضاع مصلحة نفسه ومصلحة أمته بالإجماع في المؤتمر الأكبر؛ والله سبحانه غني عن العالمين، أي: عن الناس أجمعين. فهم محتاجون إليه، وهو غير محتاج إليهم. ترك الحج جاحدا له منكرا لفرضيته
والاتجاه الثاني: أن يكون الكلام متجها إلى اليهود الذين أنكروا فضل البيت وقدمه وبناء إبراهيم له. ويكون المعنى: ومن أنكر تلك الحقيقة الثابتة وجحدها بعد البينات فقد أركس نفسه، والله سبحانه غني عن العالمين.
اللهم اهدنا إلى الحق ووفقنا للإيمان به.