ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون
إن اليهود والنصارى كانوا يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، كما قال تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا فأولئك الكتابيون كانوا يشعرون أنهم فوق مستوى سائر العرب، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بهديه فيهم ارتفع مستوى العرب فلم يذعنوا للحق الذي كان عليهم أن يؤمنوا له، بل تمردوا عليه، ولعظم المنزلة التي يعلمونها فيما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتمنون أن يضل المؤمنون، وأن يتركوا الحق، ولذا قال تعالى: ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم أي: تمنت طائفة من أهل الكتاب ضلالكم، فـ (لو) هنا مصدرية تدل على التمني، أي: ودت هذه الطائفة ضلالكم ولم يكن ذلك منهم أمنية يتمنونها فقط، بل كانوا يقرنون القول بالعمل، فكانوا يلقون بالظنون والشكوك والأوهام حول الدعوة المحمدية ليرتاب الذين آمنوا، وكان منهم منافقون ينبثون بين المسلمين باسم أنهم مسلمون، ويلقون بالريب والتشكيك في النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به كما [ ص: 1269 ] يفعل اليوم أخلافهم من بعدهم؛ ولقد كان منهم من يجرؤ على الدعوة إلى اليهودية، حتى إنه ليروى أن يهود المدينة دعوا حذيفة بن اليمان إلى اليهودية، ولكن ضل سعيهم، وباءوا بالخسران المبين. وعمار بن ياسر
وإن الذي يعلم الحق، ويحاول أن يضلل غيره يزداد ضلالا ويعمى عن طريق الهداية، حتى ينتهي الأمر به إلى أن يجهل الذي كان يعلمه، وكذلك كان هؤلاء؛ ولذا قال سبحانه:
وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون أي أنهم بسبب غوايتهم وعمايتهم واستيلاء الهوى على قلوبهم أخذوا يثيرون الشك على أهل اليقين، فما أثر الشك في أهل الحق، ولكن تأثرت نفوسهم هم بهذا الشك الذي أثاروه ليضلوا غيرهم، فضلوا، فهم حاولوا إضلال المؤمنين، فأكد الله سبحانه أنهم ما أضلوا إلا أنفسهم، وكان ضلالهم لأنفسهم من ناحيتين:
إحداهما ما ذكرناها من أن إيرادهم للشك في الأمر الذي كانوا يعلمون الحق فيه قد أوجد فيهم هم أنفسهم حيرة بعد أن كانوا يعلمون، ومثل هذا مثل الكذوب الذي يكذب ويكرر كذبته حتى يعتقد صدقها.
الناحية الثانية: أنهم كلما لجوا في الدعوة إلى الباطل الذي استمسكوا به بعدوا عن الإذعان للحق، فبمقدار ما كانوا يثيرون حول الحق من أكاذيب كانوا يبتعدون من الإيمان والإذعان، فيزدادون ضلالا فوق ضلالهم، وتلك حال نفسية يقيمون فيها ولا يشعرون بها.