قال الله (تعالى): وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم "التمني "؛ قال فيه الراغب الأصفهاني في مفرداته: والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها؛ وذلك قد يكون عن تخمين وظن؛ ويكون عن روية؛ وبناء [ ص: 5005 ] على أصل؛ لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك؛ وأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له؛ و "الأمنية ": الصورة الحاصلة في النفس من تمني شيء.
و "الرسول "؛ هو الذي يوحى إليه بشرع يكون شريعة للناس؛ و "النبي "؛ لا يكون له شريعة مستقلة؛ ولكن يشرح بوحي من الله شريعة رسول؛ كالأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى؛ ولقد ورد في الأثر: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل "؛ وإن هذه الآية الكريمة تصور إنه يجيئه من ناحية ما يتمناه؛ وما يجيء نتيجة لهذا التمني؛ وهي الأمنية؛ فإذا تمنى ألقى الشيطان بزيفه وتضليله في نفس المتمني؛ ولو كان رسولا مرسلا؛ أو نبيا يوحى إليه؛ لكن ما يلقيه الشيطان في نفس النبي؛ أو الرسول؛ ينسخه الله (تعالى)؛ أي: يزيله؛ ولا يبقي له في نفسه أثرا؛ بخلاف الذين في قلوبهم مرض؛ وليست إرادة تكف كإرادة الأنبياء. كيف يدخل الشيطان في قلب الإنسان؛
وهذا قوله (تعالى): وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته أي: إلا إذا قدر لنفسه شيئا يريده ويحبه ويتمناه؛ إلا وجد الشيطان لنفسه الذريعة التي ينفذ منها بوسوسته؛ فيلقي ما يوسوس في أمنيته ما يتمناه؛ ولكن النبي له إرادة حاكمة؛ وفي قلبه نور وهدى؛ وبهذه الإرادة والنورانية التي قذفها الله في قلبه يزيل بها الله (تعالى) ما وسوس به الشيطان؛ ثم يحكم الله آياته؛ أي: ينزلها محكمة لا ريب فيها؛ وهدى للعالمين؛ والله - سبحانه وتعالى - عليم حكيم؛ يعلم كل شيء؛ ويدبره.
ويذكر بعض علماء الأثر قصة الغرانيق العلا؛ التي ادعي فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سحر؛ وقال عن اللات والعزى: تلك الغرانيق العلا؛ وإن شفاعتهن لترتجى؛ فهي قصة باطلة؛ كاذبة؛ مهما يكن راويها؛ ومنزلته في الرواية؛ فتصديقها يؤدي إلى الطعن في الرسالة المحمدية؛ وتكذيب راو في قصة مهلهلة خير من تكذيب الرسالة والرسول؛ ومن يقبلها فهو في غفلة؛ لا يلتفت إليه؛ ويجب أن ننبه هنا إلى أمرين؛ [ ص: 5006 ] الأمر الأول أننا لسنا بالنسبة لرواية أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يسبقون بالقول؛ فنقدم الشك في الرواية على تصديقها؛ ما دامت رواية ثقات؛ ولم يكن من النصوص الثابتة ما يخالفها.
الأمر الثاني أننا لا نقدم ما يرويه الراوي؛ مهما يكن ثقة؛ على نص قطعي غير قابل للتخصيص؛ فكيف نقدم رواية تؤدي إلى الطعن في كلها؛ ككون النبي - صلى الله عليه وسلم - سحر؛ وقال عن اللات والعزى: "تلك الغرانيق العلا "؛ فهذا كذب لا يمتري في تكذيبه مؤمن. صدق الرسالة المحمدية
وننبه أيضا إلى أن الشيطان يأتي قلوب الناس يوسوس فيها من ناحية أمانيهم؛ وقد أزال (تعالى) ذلك عن أنبيائه؛ بالنص القرآني القاطع؛ وادعاء سحره يناقض ذلك النص القاطع؛ أما غيرهم فإنه يغويهم لأنهم ليسوا عباد الله المخلصين؛ والأنبياء بلا ريب من عباده المخلصين؛ وقال (تعالى): ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد إن الله (تعالى) عصم الأنبياء; لأنهم حملة رسالته إلى خلقه؛ ويعرفونها نيرة سائغة؛ أما غير الأنبياء فإنهم أقسام; قسم أخلص لله؛ واستقامت قلوبهم؛ وهم من عباده المخلصين؛ وهم الصديقون والشهداء والذين يتبعون النبيين؛ وقسم آخر في قلوبهم مرض وضعف إيمان؛ بما قلدوا؛ واتبعوا أهل الشر؛ وسلموا أنفسهم لهم؛ ولم يسلموها لله (تعالى)؛ وقسم قست قلوبهم؛ فهي كالحجارة أو أشد قسوة؛ بما مردوا عليه من نفاق؛ وقد غلفوا قلوبهم؛ فلا يدخلها نور الحق؛ وهم المنافقون واليهود شر البرية؛ وهذان الفريقان هم الذين قال (تعالى) فيهم هذه الآية.