وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا لقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم عند القتال عندما طلبوه ، ليبين سبحانه الفارقة بين القول والعمل عند الذين غلبت عليهم الذلة ، واستولت عليهم شهواتهم ، ثم أخذ سبحانه يذكر بقية القصة والعبرة فيها : وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا أي أن الله سبحانه قد أخرج من صفوفكم - وهو العليم الحكيم الخبير بأحوالكم - شخصا قد استوفى كل أسباب الرياسة وجعله ملكا عليكم . وفي التعبير إشارة إلى أنه أمثلهم وأقواهم على تحمل أعباء الحكم ; لأن " بعث " تتضمن معنى الإثارة والفحص ثم الإخراج .
والملك المراد به هنا فيما يظهر مالك أمرهم ، والمتولي ملكهم ، وليس المراد منه المعنى المتعارف ، وهو من يتولى بالسلالة ، فإنه سيتبين أنه لم يختر لسلالته ، بل اختير لعلمه وحكمته وقوته ; ولم يستمر الملك في ذريته ، بل آل من بعده لنبي الله داود كما تدل على ذلك أخبار داود التي ذكرها القرآن الكريم ، فقد آتاه الله الملك والحكم ، وإنه اختير باختيار الله تعالى بما أوحى به لنبيه ، ولم يكن باختيارهم حتى لا يتنافسوا فيكون بأسهم بينهم شديدا ، بدل أن يكون على عدوهم .
[ ص: 890 ] فليس في الآية دلالة على أن النظام الملكي الذي نعرفه في عصرنا مطلوب لا بالعبارة ولا بالإشارة ، لأنها ليست ملكية الوراثة والسلالة ، بل رياسة العلم والقدرة والحكمة، فما اختير طالوت لسلالته ونسبه بل اختير لمعان شخصية فيه .
لقد كان مقتضى ما طلبوه من نبيهم من أن يختار ملكا أن ينفذوا من غير تردد الأمر فيما اختاره بهداية الله ووحيه ; لأنهم فوضوا الأمر إلى نبيهم ، ولأن الله سبحانه وتعالى هو الذي اختاره ، وما كان لهم الخيرة بعد اختيار الله سبحانه وتعالى ، ولأن الله قد اختاره لأجلهم ولمصلحتهم ; ولذا عبر سبحانه وتعالى بقوله : بعث لكم طالوت فالتعبير بـ " لكم " إشارة إلى أنه في مصلحتكم ، وأنكم ستنتفعون بقوته ، وستكون قوته لكم على أعداكم .
ولكنهم بدل أن يطيعوا ويأخذوا الأهبة أثاروا اللجاجة التي تعودوها ; ولذلك قال سبحانه حكاية عنهم : قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال
تمردوا على نبيهم بذلك الاعتراض ; لقد أبدوا اعتراضهم بعد أن فوضوا الأمر فناقضوا أنفسهم ، وبنوا الاعتراض على أسباب جعلوها مناط الملك ، وليست هي السبب للرياسة الصالحة والملك القوي ، ظنوا أن سبب الملك أحد أمرين : إما سعة من المال وثروة طائلة ، وإما سلالة ملكية توارثها ، فقالوا : أنى يكون له الملك من أي جهة استمد الملك ، أي أنه ليس في عروقه دم ملكي يستحق به الملك ، وليس هو ذا نسب رفيع ، بل أي واحد منا أحق بالملك منه ; لأنه ليس من الأشراف ، ولئن تجاوزنا شرف النسب وكرم الولادة لنجدن أنه فقير ليس في سعة من المال ، فقد سلب منه سببا السيادة ، وهما النسب والمال .
وكذلك يكون تفكير الجماعات التي سيطرت عليها الأهواء ، وغلبت على أمرها ، تتجه إلى الماديات فتحكمها ، وتفقد تقدير المعنويات ، وبذلك تختل مقاييس التقدير ; فأول ما تبتلى به الجماعات الضعيفة أن تختل مقاييس العظمة فيها فإنه إذا اختل مقياس العظمة غمر العظماء ، ولم يظهروا إلا بالمصادفات أو القوى الخارقة ، [ ص: 891 ] والعظماء في الأمم هم القمم العالية التي تهدي إلى مواطن القوة ، وتثير العزة من مكامنها .
وإن أردت أن تعرف مقياسا ضابطا لرقي أمة من الأمم فخذه من مقياس العظمة فيها ، وقد كان بنو إسرائيل في وقت هذه القصة في أشد الانهيار الخلقي كما يدل على ذلك مقياسهم للعظمة بالسلالة والمال .
وفي هذه الجملة الكريمة مباحث لفظية نشير إليها :
أولها : قوله تعالى : أنى يكون له الملك أنى ، قد تستعمل بمعنى كيف ، وقد تستعمل بمعنى من أين ، وهي هنا يجوز أن تكون بمعنى كيف ، ويكون المعنى : كيف يكون له الملك علينا ، على أي حال يسوغ ذلك ويمكن ; فهو استفهام المقصود منه الاستبعاد المطلق ، أي أنه لا يتصور أن يكون مثله ملكا ; أي أنه ليس فيه من الصفات ، ولا في بيته من المحتد ، ما يسوغ معه أن يكون ملكا . فالمقصود من الاستفهام استبعاد أن يكون فيه سبب من الأسباب المسوغة للملك .
ثانيها : قوله تعالى : ونحن أحق بالملك المتكلم بهذا الملأ من بني إسرائيل أي كبراء بني إسرائيل ، فكل واحد منهم يقرر أنه أحق بالملك ، ومجموعهم يقرر أنه دونهم ، وأحقيتهم من ناحية النسب وناحية الجاه في بني إسرائيل ، وناحية الأنصار والعصبية .
ثالثها : قوله تعالى : ولم يؤت سعة من المال أصل السعة أن تكون في المكان وفي الفعل وفي الحال ، والسعة في الحال أن يكون على حال من القدرة أو المال بحيث لا يكون مضيقا عليه أو لا يكون في ضيق ، فلما كنى عن قلة المال بالضيق كنى عن كثرته بالسعة .
قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم لقد اعترضوا على اختيار طالوت بأنه ليس خيرا منهم سلالة ومحتدا ، وأنه ليس ذا مال وفير ; فرد نبيهم قولهم : [ ص: 892 ] أولا : بأن الله اصطفاه أي اختاره من الصفوة وأهل الهمة والنبل ، وقال اصطفاه عليكم ولم يقل منكم مع أنه منهم ، للإشارة إلى فضله عليهم واستعلائه بما منحه الله من خواص وصفات ، وإنه كان يكفي اصطفاء الله له ليسكتوا ولا يعترضوا ; لأنه ليس فوق إرادة الله إرادة ، وليس لهم الخيرة فيما اختاره الله ; ولأنهم فوضوا أمر اختيار الملك إلى النبي ، وقد اختاره الله ربهم ورب النبي .
ثانيا : ورد نبيهم اعتراضهم ببيان المقياس الصحيح لعظم الرجال واستعدادهم لقيادة الشعوب إلى مواطن العزة والشرف ، لقد حسبوا النسب والمال مقياس العظمة ، فبين لهم مقياسها ، فقال : وزاده بسطة في العلم والجسم أي أنه أعظم منكم جميعا ، لأن الله سبحانه زاده عليكم في الأمرين اللذين هما سبب للقيادة الحكيمة ، وهما :
أولا : قوة العقل وسعة العلم وكثرة التجارب ، وثانيا : قوة الجسم وعظم المنة . وفي ذلك فوق التنبيه إلى مقاييس العظمة الحقيقية ، إشارة إلى الأهلية للمنصب في الدولة ، فالأهلية للمنصب ليس الحسب والنسب والمال ، ولكن الأهلية للمنصب بالكفاية فيه ، فإذا كان الملك أعلى المناصب ، وإذا كانت الرياسة الكبرى أعظم الأعمال تبعات ، فليس الذي يؤهل للمناصب السعة والمال ، بل الكفاية لها والقدرة عليها ; ففي الآية الكريمة إشارة إلى مقياس العظمة ، وإلى مقياس الاختيار للأعمال والمناصب.
والبسطة في العلم معناها الاتساع في الأفق والتجارب ، وقوة العقل والتدبير والإحكام في التفكير ، فالبسطة معناها الاتساع ، وإذا أضيفت إلى العلم فمعناها الاتساع والإحاطة بكل ما يوجه العقل إلى التفكير المستقيم مع سلامة العقل نفسه .
وبسطة الجسم اتساعه ، لا بمعنى كثرة اللحم والشحم ، بل بأن يكون سبط العظام مديد القامة بعيد ما بين المنكبين ، وقد يراد ببسطة الجسم تلك الحقيقة ، وهو [ ص: 893 ] بذلك فوق قوة المنة ، يلقي بالرعب منظره في قلوب الأعداء ، وبالهيبة في قلوب الأولياء ; أو يراد ببسطة الجسم مطلق القوة ; لأن طويل العظام عريض ما بين المنكبين يكون في غالب الأحوال قوي الجسم ، فأطلق ذلك وأريد مطلق القوة .
ويلاحظ أنه قدمت بسطة العلم على بسطة الجسم للإشارة إلى أنها في الرياسة أقوى تأثيرا ، وأنها الأصل وغيرها التابع ، وأنه ليست الحاجة إلى قوة الجسم بمقدار الحاجة إلى قوة الرأي والتدبير وسعة العلم وكثرة التجارب .
والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بهذه الجملة السامية ، للدلالة على أمرين :
أولهما : أن الأمور كلها بيده سبحانه وتعالى ، وأنه فعال لما يريد ، وأن ما يشاء في هذا الكون يقع ، وما لا يشاء لا يقع ، وأنه سبحانه يؤتي الملك في الدنيا لمن يشاء ، وأنه إذ يعطيه هو المسيطر عليه ، ولذلك أضيف الملك إليه إذ قال ( ملكه ) فهو إذ يعطيه لمن يعطيه هو الغالب على أمره يستطيع أن يسلبه في أي وقت شاء ، فهو مالك الملك ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، وهو القاهر فوق عباده .
ثانيهما : أن كل شيء في الوجود تحت سلطان الله تعالى ، وهذا معنى أن الله واسع ، أي محيط بكل شيء ، قد وسع كل شيء برحمته وقدرته ، وأنه يدبر الأمور على مقتضى العلم الواسع الشامل ; فهو يربط الأسباب والمسببات ، وهو يعطي لحكمة يعلمها ، ويمنع لحكمة يعلمها ، يبتلي الأمم بالقوة والضعف والعزة والذلة ، والهزيمة والانتصار ، والبأساء والضراء ، ثم النعماء والسراء ، كما قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، ولا تستخذي للقوى ، وتناضل وتكافح وتصابر ، وتتوكل على الله ، وإلى الله مصير الأمور . وعلى الأمم المغلوبة أن تتخذ الأسباب بجمع الكلمة ، وتأليف القلوب ، وتحرير النفوس من ربقة الأهواء والشهوات ، ولا تستسلم للضعف
* * *