وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم هذه الآية الكريمة استئناف مترتب فيه الأمر الملزم بالقتال على القصة المشار إليها آنفا ، فإنه إذا كان الخروج من الديار حذر الموت يؤدي لا محالة إلى الموت ، فإنه من الواجب القتال في سبيل الله تعالى ورد الاعتداء ، وإذا كان الموت في القتال محتملا أو راجحا ، فالموت في الفرار والخروج من الديار حذر الموت مؤكد لا محالة ، ولو خير العاقل بين موت احتمالي وفيه الفخار ، وموت مؤكد وفيه العار ، لاختار بلا ريب القتال .
وإن القتال في سبيل الله هو الحياة الكاملة ; فإن قتل في ذلك فقد رزق الشهادة ، وهي رزق يتنافس فيه المؤمنون ، ويطلبه المتقون ، وسبيل الله هي سبيل الحق ، فكل قتال لأجل الدين والدفاع عنه فهو قتال في سبيل الله ، وكل قتال في سبيل الجماعة هو قتال في سبيل الله ما دام القتال عادلا ، هو قتال في سبيل الله ، وقتال المرء دون عرضه هو في سبيل الله سبحانه ، فكل قتال لدفع الظلم وإعلاء منار الحق هو من القتال في سبيل الله سبحانه ، ولقد قال الإمام وقتاله دون ماله رضي الله عنه : ( سبل الله كثيرة ) وكل طريق للوصول إلى الحق أو حمايته أو الدفاع عنه هي من سبل الله سبحانه وتعالى . مالك
والخطاب في الآية الكريمة : وقاتلوا في سبيل الله للمسلمين أجمعين في كل الأجيال وفي كل العصور ، ولم يقل في هذه الآية كما قال في غيرها : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا مع أن أصل القتال في الإسلام لدفع الاعتداء فقط ، لم يقل سبحانه وتعالى ذلك إلا للإشارة إلى أمرين : [ ص: 867 ] أولهما : وجوب الاستعداد الدائم للقتال فإن حب الغلب في فطرة الإنسان ، وتوقع الاعتداء مع ذلك أمر لا بد منه كما قال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ولا شيء يمنع الاعتداء أكثر من الاستعداد لدفع الاعتداء ، فلو كان للحمل ناب ما عدت عليه الذئاب ; ولو كان للظبي ظفر وناب ما افترسته أوابد الوحوش .
ثانيهما : القتال في سبيل نصرة الحق ودفع الظلم ومعاونة المظلومين ضد الظالمين ; وذلك حق على كل مسلم وإن لم يكن الاعتداء واقعا عليه ; فالقتال لدفع الظلم وإقامة الحق قتالا عادلا وهو قتال في سبيل الله سبحانه ، ولو لم يقع الاعتداء على شخص القاتل ; لأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله
ولقد بارك النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف الفضول ، وقد كان عهدا بين المتحالفين أن ينصروا المظلوم على الظالم .
ولقد عطف الله سبحانه وتعالى على الأمر بالقتال قوله تعالى : واعلموا أن الله سميع عليم فهو أمر منه سبحانه بأن يتذكروا دائما أن الله سبحانه وتعالى سميع لكل أقوالهم التي ينطقون بها سواء أكانت تلك الأقوال تدل على رغبة في الجهاد وطلب للاستشهاد ، أم كانت هذه الأقوال مخذلة معوقة للمجاهدين الأبرار من مثل قول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ومثل قول : ليس لك من الأمر شيء وإنه سيجازي كل واحد بقوله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
وكما أمرنا أن نتذكر دائما أنه سميع لنشعر برقابته على أقوالنا ، أمرنا بأن نتذكر بأنه عليم بخواطرنا وبالدوافع التي تدفعنا إلى القتال ، فهو يعلم الوساوس التي تلقي في النفس ضعفا يظهر على الشفاه ، وتعلنه الأفعال ، ويعلم البواعث التي تدفع إلى القتال أهي فخار ورغبة في دنيا يصيبها ، أم لتكون كلمة الله هي العليا ، [ ص: 868 ] ولرفع منار الحق ، وخفض الباطل ، فإن كانت الأولى فقد ذهب ثوابه بما أصاب من دنيا قصدها ، وإن كانت الثانية فكل خطوة خطاها لها ثوابها ، وكل مقام شهده له أجره ، وإن ظفر بالشهادة فقد ظفر بغاية الغايات للمؤمن الصبور التقي الطاهر ، والله سبحانه عليم بحال المقاتلين : اندفعوا في قتالهم إلى الاعتداء ، أم ساروا على الطريق المستقيم ، فلا اعتداء في قتال ، فلم يقتلوا غير ، ولم يقاتلوا من لا يقاتل . مقاتل
هذا هو الجهاد في الإسلام : دفاعا عن الذمار ، وطلبا للحياة الكريمة في الوغى حيث يحمى الوطيس ، ويكون الموت قد فغر فاه ، وحيث المنايا تعددت طرائقها وإن المجاهد في الإسلام إنما يخط بسيفه نور الحق في وسط ظلمات الباطل ، وإن الجهاد لسبيل لإعلاء كلمة الله ، حيث يشتد الظلم ، ويستغلظ الظالمون ، ويريدون أن يلتهموا الأمم والجماعات ، ويبيدوا خضراءها ، فعندئذ يكون القتال في الإسلام ، ومن يفر منه حذر الموت فإنما يفر من العزة إلى الذلة ، ومن الحياة الكريمة إلى الموت ; ولذلك قال : ( الجهاد باب من أبواب الجنة ) وعند الله النصر المبين . علي بن أبي طالب
* * *