قال تعالى:
ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين
أشار سبحانه إلى الأنبياء من بعد نوح مثل هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط عليهم السلام وغيرهم، وكلهم كذبوا مع ما جاءوا به من الآيات، وجاء ذكر الرسل بعد نوح - عليه السلام - بالإجمال، فلم يذكرهم سبحانه نبيا نبيا، كما جاء في سور أخرى وكما سيجيء في سورة هود ولكن الله تعالى أثبت أمرين: [ ص: 3617 ]
الأمر الأول - أن كل رسول جاء بالبينة الدالة على رسالته صارفا أنظارهم إلى الكون وما فيه، والضمير في قوله تعالى: فجاءوهم بالبينات يعود على الكافرين بكل الرسل وكأنهم مع اختلاف أجيالهم قبيل واحد يجمعهم الجحود والعصيان والكفر بآيات الله تعالى، فالناس أبناء الناس ويجمع الأخلاف صفات الأسلاف، ويجمع المؤمنين صفات الإذعان للدليل والتصديق للحق، ويجمع المكذبين صفات الجحود بالآيات ولو كانت بينة تستيقنها نفوسهم.
الأمر الثاني - سبب الكفر الذي تتوارثه الأجيال التي كتب الله عليها شقوتها فقال جلت كلماته: فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل أي: أن شأن الذين يكفرون أن يبادروا عند دعوة الحق الذي يجيء به نبي من الأنبياء بالتكذيب قبل أن يمنعوا في دعوته وقبل أن يستمعوا إلى الدليل ويتأملوه ويتعرفوه، فإذا سارعوا بالتكذيب نأوا عن الحق وجادلوا عن كفرهم وأمعنوا في الباطل إمعانا وضلوا ضلالا بعيدا فلا يستقيم لهم إيمان بعد ذلك ويطبع الكفر على قلوبهم وتنغلق على الكفر، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى: وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وكقوله: كذلك نطبع على قلوب المعتدين فهم يبادرون بالإنكار معتدين، ثم يلج بهم العناد فيكرروا الاعتداء المرة بعد الأخرى حتى يصير الاعتداء وصفا ملازما لهم، لا يقفون عند حد فيكون اعتداء على الحقائق وعلى آيات الله وعلى العباد.
* * *