وقد ذكر الله تعالى فقال تعالت قدرته: أوصافا للمؤمنين
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين
هذه أوصاف ثمانية للمؤمنين تبين سلامة نفوسهم، ورقابتهم عليها لدوام تطهيرها، فكلما صدئت أزالوا صدأها، يتجه آحادهم إلى جماعتهم يزيلون ريبها، ويطهرون مجتمعها، ويجعلون لها رأيا عاما فاضلا يلتزم حدود الله تعالى التي حدها. [ ص: 3456 ]
ولنتكلم بكلمات موجزة مشيرة إلى تطهير أرواح المؤمنين:
الصفة الأولى أنهم التائبون وهم الذين يراقبون أنفسهم وتشتد فيهم قوة النفس اللوامة، فهم كلما أحسوا بأمر يدنس أمرها، أو يكون فيه شك، أو يكون غيره أولى، أو تركه أولى، تابوا فهم يراقبون أنفسهم، يتوبون دائما إلى ربهم منيبين إليه، وكان في يدهم مكيالا مملوءا ماء يزيل أي دنس يعتري نفوسهم بالتوبة كما يطهر أي غبار يقع على الثوب.
والوصف الثاني العابدون بالقيام بحق الله تعالى، يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فهم يشعرون بأنه يراهم، والوصفان " التائب والعابد "، مقترنان أولهما للتخلية والثاني للتحلية.
والوصف الثالث السائحون أكثر المفسرين على أن السائحين هم الصائمون فقد ورد في الأثر: " إن سياحة أمتي الصوم " ، ولكن نرى أنه الجهاد في سبيل الله، فقد روى أبو أمامة . أن رجلا استأذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في السياحة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله "
وقال بعض العلماء إن المراد السياحة في طلب العلم.
وإننا نقول: الجمع بين الآراء أن نقول السياحة تشمل كل سياحة في سبيل الله، فتشمل السياحة في الجهاد، والسياحة في نشر الإسلام، والسياحة في تعرف أحوال المسلمين، كما تشمل سبح الفكر سائحا في ملكوت الله تعالى. [ ص: 3457 ]
والوصفان الرابع والخامس الراكعون الساجدون قالوا إن هذين الوصفين لإقامة الصلاة، وهي ذكر الجزاء وإرادة الفعل، فالصلاة قيام وقعود، وركوع وسجود، وقراءة ودعاء، واختص الركوع والسجود بالذكر; لأنهما الوصفان اللذان يتجلى فيهما معنى الصلاة، لأن إقامة الصلاة بإحسان الخضوع والخشوع لله تعالى. وإن إخلاص القلب بخضوعه الكامل، وتفويضه التام هو إقامة الصلاة، وكني به عن معنى الإقامة فيكون من المعقول أن يعبر بركني الركوع والسجود عن الصلاة، وبهما يتحقق ما اختصت به الصلاة من أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويتحقق فيها ذكر الله تعالى.
بعد أن بين سبحانه الأوصاف التي تربي نفوسهم قلبيا واجتماعيا، ذكر صفتين تطهر مجتمعهم، وتجعل الفضيلة دائما هي السائدة.
وهاتان الصفتان ولذا قال تعالى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إن المجتمع الفاضل يقوم على الأمر بالمعروف، أي: كل ما هو معروف لا تنكره العقول السليمة، والنهي عن كل أمر تنكره العقول السليمة، فإن المجتمع الفاضل ظل لكل خلق سليم ينمو في ظله الوارف، ولذا كانت أمة محمد أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم
والوصف الثامن قوله تعالى: والحافظون لحدود الله الحد ما يحده الشارع فاصلا بين الحلال والحرام، ومعنى حفظه حمايته وصونه، ومن ذلك قوله تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون
ويطلق الحد في عرف الفقهاء على كل عقوبة ذكرها الله تعالى للجرائم التي تعد اعتداء على حق الله تعالى، أو كما يعبر في لغة العصر بحق المجتمع، فالحدود عقوبات على الرذائل وحماية للفضائل. [ ص: 3458 ]
وتدخل الحدود بهذا المعنى الفقهي الخاص في ضمن حدود الله التي تفرق بين الحلال والحرام، وحفظها صونها ومراعاتها، وألا يعتدى عليها.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله، بيانا لعاقبة الإيمان، وهي نيل الخير، والاطمئنان في الدنيا والجنات في الآخرة، ورضوان من الله أكبر، ولذا قال تعالى: وبشر المؤمنين أي: بشرهم بحسن الجزاء كما ذكرنا، والله سبحانه وتعالى عنده حسن المآب، وكانت (الواو) في قوله تعالى: والحافظون لبيان أن هذا نوع مغاير لما سبقه وأن هذا جزاء المؤمنين، والمشركون لهم عذاب الجحيم، ولا يستغفر لهم أحد، إنما القربى بالأعمال، لا بالقرابة; ولذا قال تعالى: