الجهاد ماض إلى يوم القيامة
قال تعالى:
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم [ ص: 3375 ] وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير
* * *
بين الله تعالى حال المشركين، وما هم عليه، وذكر العذاب الذي يستقبلهم في الدنيا والآخرة، ثم بين حال المؤمنين، ثم يدعو سبحانه إلى استمرار المؤمنين في الجهاد، غير وانين ولا مقصرين.
والخطاب في الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وللمؤمنين معه، وكان الخطاب للنبي ابتداء، لأنه القائد الأعلى، ولأنه الهادي والمرشد والموجه.
جاهد معناها ابذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بألسنتهم، ويقولون آمنا بأفواههم، وما هم بمؤمنين، ولا شك أن بذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين يختلف، فالكفار الذين أعلنوا الكفر وفتنوا المسلمين يكون جهادهم دفعا بالسيف والقتال، والكفار الذين لم يعلنوا الكفر وأبطنوه، ولم يفتنوا المسلمين بالإيذاء والتعذيب. . كان يفعل ذلك المشركون في مكة ولكنهم يثيرون الفساد والدس والفت في عضد المؤمنين فدفعهم يكون بدفع أذاهم وشرهم ومقاومة ما يبثونه في المؤمنين من تضليل، وأن يبعدهم عنهم، وبطلان ما يدعون إليه، وإقامة الأدلة عليهم ومنع تأثيرهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ولا شك أن الجهاد باللسان له مقامه في جهاد المشركين، وأشد ما يكون تأثيرا في جهاد المنافقين. "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم "،
ألا يبش لهم، حتى يطمعوا في خداعه، بل يشعرهم بأنه في حذر منهم، ويقول ومن جهاد المنافقين يستنكر أفعالهم بيده، فإن لم يستطع فباكفهرار وجهه. وفي الجملة يسد عليهم باب خديعتهم، وقال ابن مسعود: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود، وذلك على أساس مذهبه من أن مرتكب الكبيرة [ ص: 3376 ] منافق، ويرى الحسن البصري: أن يكون جهادهم بالسيف إذا كشف نفاقهم، وأظهروا كفرهم، ويقول في ذلك إنهم في هذه الحال يخرجون من إسرار النفاق إلى الجهر بالكفر، فيدخلون في عموم الكفار المظهرين الكفر. ابن جرير
ولقد روي عن كرم الله وجهه أنه قال: علي بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف: سيف للمشركين بينه الله تعالى بقوله: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وسيف لكفار أهل الكتاب، وبينه سبحانه وتعالى بقوله: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وسيف للمنافقين بينه الله سبحانه بقوله تعالى: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وسيف للبغاة، كما قال تعالى: فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله
وإنه قد روي أن الذي تولى سيف المنافقين هو الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد تكشف نفاقهم في الردة التي وقعت عقب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ ارتد الأعراب الذين قال الله تعالى عنهم: الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله
وإنه لهذا قال بقتل المنافق وقد لاحظ وصف الظهور، كالذين ارتدوا في عهد الصديق وقاتلهم عندما أرادوا أن يؤدوا الصلاة، ولا يؤتوا الزكاة، فقال لهم رضي الله عنه: " سلم مخزية، أو حرب مجلية ". ابن جرير
وقوله تعالى: واغلظ عليهم أي: عاملهم بخشونة، ولا ترفق بهم فإن الرفق يكون بحملهم على الإيمان بالشدة عليهم حتى لا يمعنوا في الكفر، وعسى أن تكون الشدة دافعة غرورهم مانعة طغواءهم، وهذا عذابهم في الدنيا، ويكون بالهزيمة والخزي والخسران. [ ص: 3377 ]
أما جزاؤهم في الآخرة، فقد ذكره سبحانه وتعالى: ومأواهم جهنم وبئس المصير والمعنى يسيرون إلى الآخرة حتى يجدوا المأوى الذي يؤويهم، وهو جهنم وفي هذا نوع من التهكم; لأن المأوى يأوي إليه الإنسان ليجد فيه المستقر والراحة والاطمئنان، فذكر المأوى في هذا المقام تهكم عليهم كقوله تعالى: فبشرهم بعذاب أليم
ثم ذم الله تعالى هذا المأوى فقال: وبئس المصير الذي آووا إليه. اللهم قنا عذاب النار.
لقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " فقول الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان أوضح أوصافهم الكذب والحلف، ولذا قال تعالى: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان "
يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم
كان المنافقون ينالون بألسنتهم من النبي كثيرا، ولا يكفون ألسنتهم، ويقولون إذا أظهروا الإيمان، إنما نحن نستهزئ بهم، وكان الله يعلم نبيه بأحوالهم وأقوالهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفهم في لحن أقوالهم، كما قال تعالى: ولتعرفنهم في لحن القول
وكانت كلماتهم الفاسقة، تتساقط على مسامع بعض المؤمنين من غير أن يتنبهوا، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب فقال رجل من المنافقين، بجواره، قال ذلك المنافق: (لئن كان هذا الرجل - أي: الرسول - صادقا فنحن شر من الحمير، فقال وزيد بن أرقم زيد رضي الله عنه: فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار).
كان هذا القول وأشباهه يصل إلى مسامع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وربما يجابههم بهذا الذي ينقل، عندئذ يجدون المطية التي اختاروها، وهي مطية كل كذاب مهين، وهي الحلف بالله تعالى من غير أي حريجة.