وبعد أن بين الله سبحانه حال الذين ينخلعون من عبادة الأوثان، ويتوبون لله ويرجعون إليه ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة - بين ما يعامل به الذين يستمرون في غيهم، وينقضون عهودهم، ويطعنون في الدين وما يعاملون به، فقال تعالى:
[ ص: 3242 ] وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون .
النكث: النقض للشيء المفتول بفكه بعد أن أحكم فتله، وقوله: (أيمانهم) أي عهودهم، وذكرت الأيمان وهي جمع يمين بدل العهود; لأنها تقوى وتوثق بالأيمان، ولأن نقض يمين أشد شناعة وأدل على انحلال النفس والذمة، وبعد الثقة فيهم، وقال تعالى: من بعد عهدهم الذي عاهدوه ووثقوه بأيمان الله.
ولم يكتفوا بنكث الأيمان ونقض العهود، بل طعنوا في دينكم وبسب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطعن في عقيدة التوحيد التي هي من الدين.
وإن موضوع الآية فيه تخريجان:
أحدهما: أن موضوعها الذين دخلوا في الإسلام، وارتدوا ونقضوا أيمانهم. ويقول في ذلك: صاروا إخوانا في الدين ثم رجعوا فارتدوا عنه ونكثوا ما بايعوا عليه من الأيمان، والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله، ويقولون: ليس دين الزمخشري محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدير فيه.
وعلى ذلك يكون الذين نكثوا هم الذين كانوا قد أعلنوا التوبة ثم ارتدوا بعد إسلام.
وإنا نرى أن هؤلاء غير الذين تابوا وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وكانوا إخوانا للمؤمنين، وإنما موضوع الآية قوم آخرون نكثوا عهودهم التي وثقوها بالأيمان، ولم يكتفوا بذلك، بل أخذوا يطعنون في الدين، ويفترون عليه الافتراءات المختلفة.
وإن هؤلاء يقاتلون؛ ولذا قال تعالى: فقاتلوا أئمة الكفر وأظهر في موضع الإضمار، ولم يقل: (فقاتلوهم) وكان ذلك الإظهار لبيان أن هؤلاء أئمة الكفر وقادته ودعاته، والمحاربون للدعوة الإسلامية، وإن ذلك يسوغ قتالهم لمنعهم من أن يفتنوا المؤمنين في دينهم.
[ ص: 3243 ] وبين سبحانه وتعالى السبب في قتالهم فقال: إنهم لا أيمان لهم أي إنهم لا عهود لهم، ولو وثقوا بالأيمان فلا أيمان لهم، وقرئ بكسر الهمزة (لا إيمان لهم) أي أن نفوسهم منحلة لا يجزمون بشيء ولا يذعنون لشيء، لا بعهد قطعوه على أنفسهم، ولا غيره، بل هم جائرون بائرون ليس عندهم شرف الوفاء العربي، والاحتفاظ بالكلمة.
ثم قال تعالى: لعلهم ينتهون أي: رجاء أن ينتهوا عن غيهم، ويقمعهم إرهاب السيف، ومن لم تقنعه الحجة والبرهان والآيات تتلوها الآيات - فالحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.
هذا وقد استنبط الفقهاء من هذه الآية بأن يقتل، فليعتبر الذين حماهم الإسلام من ذل الرومان، وقد دأبوا على الطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن والإسلام حتى صار الإسلام غريبا في بلاده، اللهم هب للمسلمين حاكما ينفذ القرآن، وقد كان الصحابة يقتلون من يسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو بالتعريض. الذمي أو الحربي إذا طعن في الإسلام
يروى في ذلك أن رجلا في مجلس - قال: ما قتل علي - كرم الله وجهه كعب بن الأشرف إلا غدرا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بقتله فأمر بضرب عنق قائل ذلك القول. علي
وقاله آخر في مجلس فما فعل شيئا، فقام معاوية محمد بن مسلمة فقال: أيقال هذا في مجلسك وتسكت؟!! والله لا أساكنك تحت سقف أبدا.
ولا عجب، فعلي فارس الإسلام، وقامع الكفر، الطليق ابن الطليق، وقد ابتدأت غربة الإسلام في عهده، اللهم أعز الإسلام وآوه بعد غربته. ومعاوية