قوله تعالى: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا
[قال ] : باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على [ ص: 290 ] الاستسلام أو الخوف من القتل: لقوله عز وجل: البخاري قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله: إن الدين عند الله الإسلام وقوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
معنى هذا الكلام: أن الإسلام يطلق باعتبارين .
أحدهما: باعتبار الإسلام الحقيقي، وهو دين الإسلام الذي قال الله فيه: إن الدين عند الله الإسلام وقال: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
والثاني: باعتبار الاستسلام ظاهرا، مع عدم إسلام الباطن إذا وقع خوفا . كإسلام المنافقين . واستدل بقوله تعالى: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وحمله على الاستسلام خوفا وتقية .
وهذا مروي عن طائفة من السلف، منهم: مجاهد وابن زيد وغيرهم . ومقاتل بن حيان
وكذلك رجحه ، كما رجحه محمد بن نصر المروزي ; لأنهما لا يفرقان بين الإسلام والإيمان، فإذا انتفى أحدهما انتفى الآخر . البخاري
وهو اختيار ، وحكاه عن أكثر أهل السنة من أصحاب ابن عبد البر [ ص: 291 ] مالك والشافعي وداود .
وأما من يفرق بين الإسلام والإيمان، فإنه يستدل بهذه الآية على الفرق بينهما، ويقول: نفي الإيمان عنهم لا يلزم منه نفي الإسلام، كما نفى الإيمان عن الزاني والسارق والشارب، وإن كان الإسلام عنهم غير منفي . وقد ورد هذا المعنى في الآية عن ابن عباس وقتادة . وروي عن والنخعي ابن زيد - معناه - أيضا . وهو قول الزهري وحماد بن زيد . ورجحه وأحمد وغيره . واستدلوا به على التفريق بين الإسلام والإيمان . وكذا قال ابن جرير في هذه الآية، قال: قتادة قولوا أسلمنا شهادة أن لا إله إلا الله، وهو دين الله، والإسلام درجة، والإيمان تحقيق في القلب . والهجرة في الإيمان درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في سبيل الله درجة . خرجه . فجعل ابن أبي حاتم الإسلام الكلمة، وهي أصل الدين، والإيمان ما قام بالقلوب من تحقيق التصديق بالغيب، فهؤلاء القوم لم يحققوا الإيمان في قلوبهم . وإنما دخل في قلوبهم تصديق ضعيف، بحيث صح به إسلامهم . ويدل عليه: قوله تعالى: قتادة وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا
واختلف من فرق بين الإسلام والإيمان، في حقيقة الفرق بينهما:
[ ص: 292 ] فقالت طائفة: الإسلام كلمة الشهادتين، والإيمان العمل . وهذا مروي عن الزهري ، وهو رواية عن وابن أبي ذئب ، وهي المذهب عند أحمد وغيره من أصحابه . القاضي أبي يعلى
ويشبه هذا: قول ابن زيد في تفسير هذه الآية، قال: لم يصدقوا إيمانهم بأعمالهم، رد الله عليهم، وقال: لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا فقال: الإسلام إقرار والإيمان تصديق .
وهو قول أبي خيثمة وغيره من أهل الحديث . وقد ضعف ابن حامد من أصحابنا هذا القول عن ، وقال: الصحيح أن مذهبه أن الإسلام قول وعمل، رواية واحدة، ولكن لا تدخل كل الأعمال في الإسلام كما تدخل في الإيمان . أحمد
وذكر: أن المنصوص عن ، أنه لا يكفر تارك الصلاة، فالصلاة من خصال الإيمان دون الإسلام، وكذلك اجتناب الكبائر من شرائط الإيمان دون الإسلام . أحمد
كذا قال، وأكثر أصحابنا: أن ظاهر مذهب أحمد فلو لم تكن الصلاة من الإسلام، لم يكن تاركها عنده كافرا . والنصوص الدالة على أن الأعمال داخلة في الإسلام كثيرة جدا . وقد ذهب طائفة إلى أن الإسلام عام، والإيمان خاص، فمن ارتكب الكبائر خرج من دائرة الإيمان الخاصة إلى دائرة الإسلام العامة . تكفير تارك الصلاة،
هذا مروي عن أبي جعفر محمد بن علي . وضعفه ابن نصر المروزي، من جهة راويه عنه، وهو فضيل بن يسار، [ ص: 293 ] وطعن فيه .
وروي عن نحو هذا - أيضا . حماد بن زيد
وحكي رواية عن - أيضا -; فإنه قال - في رواية أحمد الشالنجي - في مرتكب الكبائر: يخرج من الإيمان، ويقع في الإسلام . ونقل ، عن حنبل - معناه . وقد تأول هذه الرواية أحمد ، وأقرها غيره، وهي اختيار القاضي أبو يعلى أبي عبد الله ابن بطة وابن حامد، وغيرهما من الأصحاب .
وقالت طائفة: الفرق بين الإسلام والإيمان: أن الإيمان هو التصديق . تصديق القلب، فهو علم القلب وعمله، والإسلام الخضوع والاستسلام والانقياد، فهو عمل القلب والجوارح . وهذا قول كثير من العلماء، وقد حكاه أبو الفضل التميمي عن أصحاب ، وهو قول طوائف من المتكلمين . لكن المتكلمون عندهم أن الأعمال لا تدخل في الإيمان، وتدخل في الإسلام، وأما أصحابنا وغيرهم من أهل الحديث، فعندهم أن الأعمال تدخل في الإيمان، مع اختلافهم في دخولها في الإسلام، كما سبق . أحمد
فلهذا قال كثير من العلماء: إن الإسلام والإيمان تختلف دلالتهما بالإفراد والاقتران، فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه، وإن قرن بينهما كانا شيئين حينئذ .
وبهذا يجمع بين حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان، ففرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وبين حديث وفد عبد القيس حيث فسر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان [ ص: 294 ] المنفرد بما فسر به الإيمان المقرون في حديث جبريل .
وقد حكى هذا القول عن كثير من أهل السنة والجماعة . وروي عن أبو بكر الإسماعيلي ما يدل عليه . وهو أقرب الأقوال في هذه المسألة وأشبهها بالنصوص . والله أعلم أبي بكر بن أبي شيبة
. والقول بالفرق بين الإسلام والإيمان مروي عن الحسن وابن سيرين وشريك وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن معين، ومؤمل بن إهاب، وحكي عن - أيضا . وقد سبق حكايته عن مالك ، قتادة وداود بن أبي هند ، ، والزهري ، وابن أبي ذئب وحماد بن زيد، ، وأحمد وأبي خيثمة .
وكذلك حكاه أبو بكر بن السمعاني عن أهل السنة والجماعة جملة . فحكاية ابن نصر عن الأكثرين التسوية بينهما غير جيد . وابن عبد البر
بل قد قيل: إن السلف لم يرو عنهم غير التفريق . والله أعلم
. وخرج في هذا الباب: البخاري
حديث ، عن الزهري ، عن أبيه، عامر بن سعد وسعد جالس، فترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا، هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان، فوالله، إني لأراه مؤمنا؟ فقال: "أو مسلما"، فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه، فقلت: يارسول الله، ما لك عن فلان; فوالله إني لأراه مؤمنا; قال: "أو مسلما"، فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "يا سعد ، إني [ ص: 295 ] لأعطي الرجل، وغيره أعجب إلي منه، خشية أن يكبه الله في النار" . خرجه من طريق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى رهطا، شعيب، عن . ثم قال: رواه الزهري يونس وصالح وابن أخي ومعمر ، عن الزهري . وقد رواه الزهري - أيضا -، عن ابن أبي ذئب - كذلك . ورواه الزهري العباس الخلال، عن ، عن الوليد بن مسلم ابن وهب ورشدين بن سعد ، عن يونس، عن ، عن الزهري إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . " وأخطأ في ذلك -: نقله عن أبيه . ابن أبي حاتم الرازي،
فهذا الحديث محمولا عند على أن هذا الرجل كان منافقا، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفى عنه الإيمان، وأثبت له الاستسلام دون الإسلام الحقيقي . وهو - أيضا - قول البخاري . وهذا في غاية البعد، وآخر الحديث يرد على ذلك، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - محمد بن نصر المروزي فإن هذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكله إلى إيمانه، كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويمنع المهاجرين والأنصار . "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه " .
وزعم في كتاب " العلل " له: أن هذا من باب المزاح من النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يمزح ولا يقول إلا حقا، فأوهم علي بن المديني سعدا أنه ليس بمؤمن بل مسلم ، وهما بمعنى واحد، كما يقول لرجل يمازحه - وهو يدعي أنه أخ لرجل -، فيقول: إنما أنت ابن أبيه، أو ابن أمه، وما أشبه ذلك، مما يوهم [ ص: 296 ] الفرق، والمعنى واحد .
وهذا تعسف شديد .
والظاهر - والله أعلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر سعدا عن الشهادة بالإيمان; لأن الإيمان باطن في القلب لا اطلاع للعبد عليه، فالشهادة به شهادة على ظن، فلا ينبغي الجزم بذلك، كما قال: "إن كنت مادحا لا محالة، فقل: أحسب فلانا كذا، ولا أزكي على الله أحدا" .
وأمره أن يشهد بالإسلام; لأنه أمر مطلع عليه .
كما في "المسند" عن - مرفوعا -: أنس "الإسلام علانية والإيمان في القلب " .
ولهذا كره أكثر السلف أن يطلق الإنسان على نفسه أنه مؤمن، وقالوا: هو صفة مدح، وتزكية للنفس بما غاب من أعمالها، وإنما يشهد لنفسه بالإسلام; لظهوره . فأما حديث: فقد خرجه "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان " . أحمد والترمذي من حديث وابن ماجه دراج، عن أبي الهيثم عن - مرفوعا . وقال أبي سعيد : هو حديث منكر . أحمد ودراج له مناكير . والله أعلم
. [ ص: 297 ] وهذا الذي ذكره في هذا الباب، من الآية والحديث إنما يطابق التبويب، على اعتقاده: أنه لا فرق بين الإسلام والإيمان . وأما على قول الأكثرين بالتفريق بينهما، فإنما ينبغي أن يذكر في هذا الباب قوله عز وجل: البخاري وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها فإن الجمهور على أنه أراد استسلام الخلق كلهم له وخضوعهم، فأما المؤمن فيستسلم ويخضع طوعا، وأما الكافر فإنه يضطر إلى الاستسلام عند الشدائد ونزول البلاء به كرها، ثم يعود إلى شركه عند زوال ذلك كله، كما أخبر الله عنهم بذلك في مواضع كثيرة من القرآن .
والحديث الذي يطابق الباب - على اختيار المفرقين بين الإسلام والإيمان - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - - في ذكر قرينه من الجن -: وقد روي بضم الميم وفتحها: فمن رواه بضمها، قال: المراد: أي: أنا أسلم من شره . ومن رواه بفتحها، فمنهم من فسره بأنه أسلم من كفره، فصار مسلما . وقد ورد التصريح بذلك في رواية خرجها "ولكن الله أعانني عليه، فأسلم " . في "مسنده "، بإسناد فيه ضعف . ومنهم من فسره بأنه استسلم وخضع وانقاد كرها . وهو تفسير البزار وغيره . فيطابق على هذا ترجمة الباب . والله أعلم . ابن عيينة
* * *
[ ص: 298 ] قال المحققون من العلماء: كل مؤمن مسلم ، فإن من حقق الإيمان، ورسخ في قلبه، قام بأعمال الإسلام، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام، وليس كل مسلم مؤمنا، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفا، فلا يتحقق القلب به تحققا تاما . مع عمل جوارحه بأعمال الإسلام، فيكون مسلما وليس بمؤمن الإيمان التام كما قال تعالى: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " . قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ولم يكونوا منافقين بالكلية على أصح التفسيرين، وهو قول وغيره، بل كان إيمانهم ضعيفا، ويدل عليه قوله تعالى: ابن عباس وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا يعني: لا ينقصكم من أجورها، فدل على أن معهم من الإيمان ما تقبل به أعمالهم . وكذلك لسعد بن أبي وقاص لما قال له: لم تعط فلانا وهو مؤمن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أو مسلم " يشير إلى أنه لم يحقق مقام الإيمان . وإنما هو في مقام الإسلام الظاهر، ولا ريب أنه متى ضعف الإيمان الباطن . لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة أيضا، لكن اسم الإيمان ينفى عمن ترك شيئا من واجباته، كما في قوله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اختلف أهل السنة: هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان، أو يقال: ليس [ ص: 299 ] بمؤمن، لكنه مسلم، على قولين، وهما روايتان عن "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " . . أحمد
وأما اسم الإسلام، فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته، أو انتهاك بعض محرماته، وإنما ينفى بالإتيان بما ينافيه بالكلية، ولا يعرف في شيء من السنة الصحيحة نفي الإسلام عمن ترك شيئا من واجباته، كما ينفى الإيمان عمن ترك شيئا من واجباته، وإن كان قد ورد إطلاق الكفر على فعل بعض المحرمات، وإطلاق النفاق أيضا .
واختلف العلماء: هل يسمى مرتكب الكبائر كافرا كفرا أصغر أو منافقا النفاق الأصغر، ولا أعلم أن أحدا منهم أجاز إطلاق نفي اسم الإسلام عنه . إلا أنه روي عن أنه قال: ما تارك الزكاة بمسلم . ويحتمل أنه كان يراه كافرا بذلك، خارجا عن الإسلام . وكذلك روي عن ابن مسعود فيمن تمكن من الحج، ولم يحج أنهم ليسوا بمسلمين، والظاهر أنه كان يعتقد كفرهم، ولهذا أراد أن يضرب عليهم الجزية، يقول: لم يدخلوا في الإسلام بعد، فهم مستمرون على كتابيتهم . وإذا تبين أن اسم الإسلام لا ينتفي إلا بوجود ما ينافيه، ويخرج عن الملة بالكلية، فاسم الإسلام إذا أطلق أو اقترن به المدح، دخل فيه الإيمان كله من التصديق وغيره . عمر
وخرج من حديث النسائي عقبة بن مالك ثلاث مرات . فلولا أن الإسلام المطلق يدخل فيه الإيمان والتصديق بالأصول الخمسة، لم يصر من قال: "أنا مسلم " مؤمنا بمجرد هذا القول، وقد أخبر الله تعالى عن ملكة سبإ أنها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة وقالت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية، [ ص: 300 ] فغارت على قوم، فقال رجل منهم: إني مسلم ، فقتله رجل من السرية . فنمى الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال فيه قولا شديدا، فقال الرجل: إنما قالها تعوذا من القتل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا" رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين وأخبر عن يوسف عليه السلام أنه دعا بالموت على الإسلام . وهذا كله يدل على أن الإسلام المطلق يدخل فيه ما يدخل في الإيمان من التصديق . وفي "سنن " ابن ماجه ، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عدي بن حاتم عدي ، أسلم تسلم! ، قلت: وما الإسلام؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله، وتشهد أني رسول الله، وتؤمن بالأقدار كلها، خيرها وشرها حلوها ومرها" . فهذا نص في أن عن الإيمان بالقدر من الإسلام .