[و] لما اتضحت الدلائل لكل عالم وجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه فيه فقال: لا إكراه في الدين وقال لما نقل سبحانه وتعالى رتبة الخطاب من حد خطاب الأمر والنهي والحدود وما ينبني عليه المقام به دين القيمة الذي أخفى لهم أمر العظمة والجبروت الجابر لأهل الملكوت والملك فيما هم فيه مصرفون إلى علو رتبة دين الله المرضي الذي لا لبس فيه ولا حجاب عليه ولا عوج له، وهو إطلاعه سبحانه وتعالى عبده على قيوميته الظاهرة بكل باد وفي كل باد وعلى كل باد وأظهر من كل باد وعظمته الخفية التي لا يشير إليها اسم ولا يجوزها رسم وهي مداد كل مداد بين سبحانه وتعالى وأعلن بوضع الإكراه الخفي موقعه في دين القيمة من حيث ما فيه من حمل الأنفس على كرهها فيما كتب عليها مما هو علم عقابها وآية عذابها، فذهب بالاطلاع على أمر الله في قيوميته وعظمته كره النفس بشهودها جميع ما تجري فيه لها ما عليها. الحرالي:
[ ص: 41 ] فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات بما استشعرته قلوبهم من ماء التوحيد الجاري تحت مختلفات أثمار أعمالهم فعاد حلوه ومره بذلك التوحيد حلوا، كما يقال في الكبريت الأحمر الذي يقلب أعيان الأشياء الدنية إلى حال أرفعها. انتهى.
ثم علل سبحانه وتعالى انتفاء الإكراه عنه بقوله: قد تبين الرشد قال وهو حسن التصرف في الأمر والإقامة عليه بحسب ما يثبت ويدوم الحرالي: من الغي وهو سوء التصرف في الشيء وإجراؤه على ما تسوء عاقبته. انتهى. أي فصار كل ذي لب يعرف أن الإسلام خير كله وغيره شر كله، لما تبين من الدلائل وصار بحيث يبادر كل من أراد نفع نفسه إليه ويخضع أجبر الجبابرة لديه فكأنه لقوة ظهوره وغلبة نوره قد انتفى عنه الإكراه بحذافيره، [ ص: 42 ] لأن الإكراه الحمل على ما لم يظهر فيه وجه المصلحة فلم يبق منه مانع إلا حظ النفس الخبيث في شهواتها البهيمية والشيطانية فمن أي فكان ذلك سببا لأنه من يكفر بالطاغوت وهو نفسه وما دعت إليه ومالت بطبعها الرديء إليه. وقال وهو ما أفحش في الإخراج عن الحد الموقف عن الهلكة صيغة مبالغة وزيادة انتهاء مما منه الطغيان. انتهى. الحرالي: ويؤمن بالله أي الملك الأعلى ميلا مع العقل الذي هو خير كله لما رأى بنوره من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة وداوم على ذلك بما أفادته صيغة المضارع من يكفر ويؤمن فقد استمسك على بصيرة منه بالعروة الوثقى أي التي لا يقع شك في أنها أوثق الأسباب في نجاته بما ألقى بيده واستسلم لربه
ومن يسلم وجهه إلى الله والعروة ما تشد به العياب ونحوها [ ص: 43 ] بتداخلها بعضها في بعض دخولا لا ينفصم بعضه من بعض إلا بفصم طرفه فإذا انفصمت منه عروة انفصم جميعه، والوثقى صيغة فعلى للمبالغة من الثقة بشدة ما شأنه أن يخاف وهنه، ثم بين وثاقتها بقوله: لا انفصام لها أي لا مطاوعة في حل ولا صدع ولا ذهاب. قال فصمت الشيء صدعته، والعقدة حللتها، والشيء عنه ذهب. وقال ابن القطاع: من الفصم وهو خروج العرى بعضها من بعض، أي فهذه العروة لا انحلال لها أصلا، وهو تمثيل للمعلوم بالنظر والاحتجاج بالمشاهد المحسوس ليتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده فيه ويجل اغتباطه به، فعلم من هذا أنه لم يبق عائق عن الدخول في هذا الدين إلا القضاء والقدر، الحرالي: فأخرجته من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والحيرة. فمن سبقت له السعادة قيض الله سبحانه وتعالى له من الأسباب ما يخرجه به من الظلمات إلى النور، ومن غلبت عليه الشقاوة سلط عليه الشياطين
ولما كان كل من الإيمان والكفر المتقدمين قولا وفعلا واعتقادا قال مرغبا فيهما ومرهبا من تركهما: والله الذي له صفات [ ص: 44 ] الكمال سميع أي لما يقال مما يدل على الإيمان عليم أي بما يفعل أو يضمر من الكفر والطغيان ومجاز عليه، ولعل في الآية التفاتا إلى ما ذكر أول السورة في الكفار من أنه سواء عليهم الإنذار وتركه وإلى المنافقين وتقبيح ما هم عليه مما هو في غاية المخالفة لما صارت أدلته أوضح من الشمس وهي مشعرة بالإذن في الإعراض عن المنافقين،