ولما ابتدأ سبحانه وتعالى الفاتحة كما مضى بذكر الذات، ثم تعرف بالأفعال لأنها مشاهدات، ثم رقى الخطاب إلى التعريف بالصفات، ثم أعلاه رجوعا إلى الذات للتأهل للمعرفة ابتدأ هذه السورة بصفة الكلام لأنها أعظم المعجزات وأبينها وأدلها على غيب الذات وأوقعها [ ص: 26 ] في النفوس لا سيما عند العرب، ثم تعرف بالأفعال فأكثر منها. فلما لم يبق لبس أثبت الوحدانية بآيتها السابقة مخللا ذلك بأفانين الحكم ومحاسن الأحكام وأنواع الترغيب والترهيب في محكم الوصف والترتيب فلما تمت الأوامر وهالت تلك الزواجر [وتشوقت الأنفس] وتشوفت الخواطر إلى معرفة سبب انقطاع الوصل بانبتار الأسباب وانتفاء الشفاعة في ذلك اليوم، إذ كان المألوف من ملوك الدنيا أنهم لا يكادون يتمكنون من أمر من الأمور حق التمكن من كثرة الشفعاء والراغبين من الأصدقاء، إذ كان الملك منهم لا يخلو مجلسه قط عن جمع كل منهم صالح للقيام مقامه ولو خذله أو وجه إليه مكره ضعضع أمره وفت في عضده فهو محتاج إلى مراعاتهم واسترضائهم ومداراتهم، بين سبحانه وتعالى صفة الآمر بما هو عليه من الجلال والعظمة ونفوذ الأمر والعلو عن الصد والتنزه عن الكفر والند والتفرد بجميع الكمالات والهيبة المانعة بعد انكشافها هناك أتم انكشاف لأن تتوجه الهمم لغيره وأن تنطق بغير إذنه وأن يكون غير ما يريد ليكون ذلك أدعى إلى قبول أمره والوقوف عند نهيه وزجره، ولأجل هذه الأغراض ساق الكلام مساق جواب السؤال فكأنه [ ص: 27 ] قيل: هذا ما لا يعرف من أحوال الملوك فمن الملك في ذلك اليوم؟ فذكر التي ما اشتمل كتاب على مثلها مفتتحا لها بالاسم العلم الفرد الجامع الذي لم يتسم به غيره، وذلك لما تأهل السامع بعد التعرف بالكلام والتودد بالأفعال لمقام المعرفة فترقى إلى أوج المراقبة وحضرة المشاهدة فقال عائدا إلى مظهر الجلال الجامع لصفات الجلال والإكرام لأنه من أعظم مقاماته: آية الكرسي [سيدة] آي القرآن الله أي هو الملك في ذلك اليوم ثم أثبت له صفات الكمال [ ص: 28 ] منزها عن شوائب النقص مفتتحا لها بالتفرد فقال: لا إله إلا هو مقررا لكمال التوحيد، فإنه المقصود الأعظم من جميع الشرائع ولكن الإنسان لما جبل عليه من النقصان لا بد [له] من ترغيب يشده وترهيب يرده ومواعظ ترفقه وأعمال تصدقه وأخلاق تحققه، فخلل سبحانه وتعالى آي التوحيد بالأحكام والقصص، والأحكام تفيد الأعمال الصالحة فترفع أستار الغفلة عن عيون القلوب وتكسب الأخلاق الفاضلة لتصقل الصدأ عن مرائي النفوس فتتجلى فيها حقائق التوحيد، والقصص تلزم بمواعظها واعتباراتها بالأحكام وتقرر دلائل المعارف فيرسخ التوحيد، وكان هذا التفصيل لأنه أنشط للنفس بالانتقال من نوع إلى آخر مع الهز بحسن النظم وبلاغة التناسب والإلهاب ببداعة الربط وبراعة التلاحم. وقال لما أتى بالخطاب على بيان جوامع من معالم الدين وجهات الاعتبار وبيان أحكام الجهاد [ ص: 29 ] والإنفاق فيه فتم الدين بحظيرته معالم إسلام وشعائر إيمان ولمحة إحسان أعلى تعالى الخطاب إلى بيان أمر الإحسان كما استوفى البيان في أمر الإيمان والإسلام فاستفتح هذا الخطاب العلي الذي يسود كل خطاب ليعلي به الذين آمنوا فيخرجهم به من ظلمة الإيمان بالغيب الذي نوره يذهب ظلمة الشك والكفر إلى صفاء ضياء الإيقان الذي يصير نور الإيمان بالإضافة إليه ظلمة كما يصير نور القمر عند ضياء الشمس ظلمة، فكانت نسبة هذه الآية من آية الإلهية في قوله سبحانه وتعالى الحرالي: وإلهكم إله واحد وما بعدها من الاعتبار في خلق السماوات والأرض نسبة ما بين علو اسمه الله الذي لم يقع فيه شرك بحق ولا بباطل إلى اسمه الإله الذي وقع فيه الشرك بالباطل فينقل تعالى المؤمنين الذين استقر لهم إيمان الاعتبار بآية وإلهكم إله واحد وما بعدها من الاعتبار في خلق السماوات والأرض إلى يقين العيان باسمه " الله " وما يلتئم بمعناه من أوصافه العظيمة. انتهى.
ولما وحد سبحانه وتعالى نفسه الشريفة أثبت استحقاقه لذلك بحياته وبين أن المراد بالحياة الأبدية بوصف القيومية فقال: [ ص: 30 ] الحي [أي الذي له الحياة وهي صفة توجب صحة العلم والقدرة أي الذي يصح أن يعلم ويقدر] القيوم أي القائم بنفسه المقيم لغيره على الدوام على أعلى ما يكون من القيام والإقامة. قال فيعول زيدت في أصوله الياء ليجتمع فيه لفظ ما هو من معناه الذي هو القيام بالأمر مع واوه التي هي من قام يقوم فأفادت صيغته من المبالغة ما في القيام والقوام على حد ما تفهمه معاني الحروف عند المخاطبة بها من أئمة العلماء الوالجين في مدينة العلم المحمدي من بابه العلوي. انتهى. الحرالي:
ثم بين قيوميته وكمال حياته بقوله: لا تأخذه سنة قال هي مجال النعاس في العينين قبل أن يستغرق الحواس ويخامر القلب الحرالي: ولا نوم وهو ما وصل من النعاس إلى القلب فغشيه [ ص: 31 ] في حق من ينام قلبه وما استغرق الحواس في حق من لا ينام قلبه. انتهى، ولما عبر بالأخذ الذي هو بمعنى القهر والغلبة وجب تقديم السنة، كما لو قيل: فلان لا يغلبه أمير ولا سلطان، ثم بين هذه الجملة بقوله: له أي بيده وفي تصرفه واختصاصه ما في السماوات الذي من جملته الأرض وما في الأرض أي من السنة والنوم وغيرهما إبداعا ودواما وما هو في قبضته وتصرفه لا يغلبه. قال وسلب بالجملة الأولى أمر الملكوت من أيدي الملائكة إلى قهر جبروته والآثار من نجوم الأفلاك إلى جبره، وسلب بالجملة الثانية الآثار والصنائع من أيدي خليفته وخليقته إلى قضائه وقدره وظهور قدرته، فكان هذا الخطاب بما أبدى للفهم إقامة قيامه على مجعول الحكمة الأرضية والسمائية التي هي حجاب قيوميته سلبا لقيام ما سواه. انتهى. الحرالي:
ثم بين ما تضمنته هذه الجملة بقوله منكرا على من ربما توهم أن شيئا يخرج عن أمره فلا يكون مختصا به من ذا الذي يشفع أي مما ادعى الكفار شفاعته وغيره عنده إلا بإذنه أي بتمكينه لأن [ ص: 32 ] من لم يقدر أحد على مخالفته كان من البين أن كل شيء في قبضته، وكل ذلك دليل على تفرده بالإلهية. قال وحقيقة الشفاعة وصلة بين الشفيع والمشفوع له لمزية وصلة بين الشفيع والمشفوع عنده، فكان الإذن في باطن الشفاعة حظا من سلب ما للشفعاء ليصير بالحقيقة إنما الحرالي: عند الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى بالحقيقة الذي شفع عند نفسه بنفسه، فبإخفائه تعالى شفاعته في شفاعة الشفعاء كان هو الشفيع في الابتداء من وراء حجاب لأن إبداءه كله في حجاب وإعادته من غير حجاب، فلذلك هو سبحانه وتعالى خاتم الشفعاء حيث يقول كما ورد في الخبر الشفاعة لله سبحانه وتعالى "شفع الأنبياء والمرسلون ولم يبق إلا الحي القيوم" انتهى. ثم بين جميع ما مضى بقوله: يعلم ما بين أيديهم أي ما في الخافقين ممن ادعت شفاعته وغيرهم. قال أي ما أتاهم علمه من أمر أنفسهم وغيرهم، لأن ما بين يدي المرء يحيط به حسه، وما علمه أيضا فكأنه بين يدي قلبه يحيط به علمه الحرالي: وما خلفهم وهو ما لم ينله علمهم، لأن الخلف هو ما لا يناله الحس، فأنبأ أن علمه من وراء علمهم محيط بعلمهم فيما علموا وما لم يعلموا. انتهى.
ولما بين قهره لهم بعلمه بين عجزهم عن كل شيء من علمه إلا ما [ ص: 33 ] أفاض عليهم بحلمه فقال: ولا يحيطون بشيء أي قليل ولا كثير من علمه إلا بما شاء فبان بذلك ما سبقه، لأن من كان شامل العلم ولا يعلم غيره إلا ما علمه كان كامل القدرة، فكان كل شيء في قبضته، فكان منزها عن الكفؤ متعاليا عن كل عجز وجهل، فكان بحيث لا يقدر غيره أن ينطق إلا بإذنه لأنه يسبب له ما يمنعه مما لا يريده.
ثم بين ما في هذه الجملة من إحاطة علمه وتمام قدرته بقوله مصورا لعظمته وتمام علمه وكبريائه وقدرته بما اعتاده الناس في ملوكهم: وسع كرسيه ومادة كرس تدور على القوة والاجتماع والعظمة [ ص: 34 ] والكرس الذي هو البول والبعر الملبد مأخوذ من ذلك. وقال الأصفهاني: الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد. وقال معنى الكرس هو الجمع، فكل ما كان أتم جمعا فهو أحق بمعناه، ويقال على المرقي للسرير الذي يسمى العرش الذي يضع الصاعد عليه قدمه إذا صعد وإذا نزل وحين يستوي إن شاء: كرسي، ثم قال: والكرسي فيه صور الأشياء كلها كما بدت آيته في الأرض [ ص: 35 ] التي فيها موجودات الأشياء كلها، فما في الأرض صورة إلا ولها في الكرسي مثل، فما في العرش إقامته ففي الكرسي أمثلته، وما في السماوات إقامته ففي الأرض صورته، فكان الوجود مثنيا كما كان القرآن مثاني إجمالا وتفصيلا في القرآن ومدادا وصورا في الكون، فجمعت هذه الآية العلية تفصيل المفصلات وانبهام صورة المداديات بنسبة ما بين السماء وما منه، وجعل وسع الكرسي وسعا واحدا حيث قال: الحرالي: السماوات والأرض ولم يكن وسعان لأن الأرض في السماوات والسماوات في الكرسي والكرسي في العرش والعرش في الهواء. انتهى. فبان بذلك ما قبله لأن من كان بهذه العظمة في هذا التدبير المحكم والصنع المتقن كان بهذا العلم وهذه القدرة التي لا يثقلها شيء ولذا قال: ولا يئوده أي يثقله. قال من الأود أي [ ص: 36 ] بلوغ المجهود ذودا، ويقابله ياء من لفظ يد أي وهو القوة، وأصل معناه والله سبحانه وتعالى [أعلم] أنه لا يعجزه علو أيده ولذلك يفسره اللغويون بلفظة يثقله الحرالي: حفظهما في قيوميته كما يثقل غيره أو يعجزه حفظ ما ينشئه بل هو عليه يسير لأنه لو أثقله لاختل أمرهما ولو يسيرا ولقدر غيره ولو يوما ما على غير ما يريده. والحفظ قال الرعاية لما هو متداع في نفسه فيكون تماسكه بالرعاية له عما يوهنه أو يبطله. انتهى. ولما لم يكن علوه وعظمته بالقهر والسلطان والإحاطة بالكمال منحصرا فيما تقدم عطف عليه قوله: الحرالي: وهو أي مع ذلك كله المتفرد بأنه العلي أي الذي لا رتبة إلا وهي منحطة عن رتبته العظيم كما أنبأ عن ذلك افتتاح الآية بالاسم العلم الأعظم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى علوا وعظمة تتقاصر عنهما الأفهام لما غلب عليها من الأوهام، ونظم الاسمين هكذا دال على أنه أريد بالعظم علو الرتبة وبعد المنال عن إدراك [ ص: 37 ] العقول، وقد ختمت الآية بما بدئت به غير أن بدأها بالعظمة كما قال كان باسم " الله " إلاحة وختمها كان بذلك إفصاحا لما ذكر من أن الإبداء من وراء حجاب والإعادة بغير حجاب، كذلك تنزل القرآن، مبدأ الخطاب إلاحة وخاتمته إفصاح ليتطابق الوحي والكون تطابق قائم ومقام الحرالي ألا له الخلق والأمر ولما في العلو من الظهور وفي العظمة من الخفاء لموضع الإحاطة لأن العظيم هو ما يستغرق كما يستغرق الجسم العظيم جميع الأقطار وله المثل الأعلى وذلك حين كان ظاهر العلو هو كبرياءه الذي شهد به كبير خلقه، قال سبحانه وتعالى فيما أنبأ عنه نبيه صلى الله عليه وسلم
لأن الرداء هو ما على الظاهر "والعظمة إزاري" والإزار ما ستر الباطن والأسفل، فإذا في السماء كبرياؤه وفي الأرض عظمته، وفي العرش علوه وفي الكرسي عظمته، فعظمته أخفى ما يكون حيث التفصيل، وكبرياؤه وعلوه أجلى ما يكون حيث الإبهام والانبهام، فتبين بهذا المعنى علو رتبة هذه الآية بما علت على الإيمان علو الإيمان على الكفران، ولما ألاحته للأفهام من قيوميته تعالى وعلوه وعظمته وإبادة ما سواه في أن ينسب إليهم شيء لأنه سبحانه وتعالى إذا بدا باد ما سواه كان في إلاحة هذه الآية العلية العظيمة تقرير دين الإسلام الذي هو دين الإلقاء كما كان فيما تقدم من إيراد السورة تقرير دين القيمة الذي [ ص: 38 ] ما أمروا إلا ليعبدوا به مخلصين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ولذلك كان ذكر دين الإسلام في سورة الإفصاح بمعاني هذه السورة آل عمران إثر قوله "الكبرياء ردائي" شهد الله أنه لا إله إلا هو انتهى. وقد علم من هذا التقرير أن كل جملة استؤنفت فهي علة لما قبلها وأن الأخيرة شارحة للازم العلم المحيط وهو القدرة التامة التي أقمت دليل لزومها في طه، فمن ادعى شركة فليحفظ هذا الكون ولو في عام من الأعوام وليعلم بما هو فاعل في ذلك العام ليصح قوله: وأنى له ذلك وأنى! واتضح بما تقرر له سبحانه وتعالى من العلو والعظمة أن الكافر به هو الظالم، وأن يوم تجليه للفصل لا تكون فيه شفاعة ولا خلة، وأما البيع فهم عنه في أشغل الشغل، وإن كان المراد به الفداء فقد علم أنه لا سبيل إليه ولا تعريج عليه، وبهذه الأسرار اتضح قول [ ص: 39 ] السيد المختار صلى الله عليه وسلم: وذلك لما اشتملت عليه من أسماء الذات والصفات والأفعال، ونفي النقص وإثبات الكمال، ووفت به من أدلة التوحيد على أتم وجه في أحكم نظام وأبدع أسلوب متمحضة لذلك، فإن فضل الذكر والعلم يتبع المذكور والمعلوم، وقد احتوت على الصفات السبع: الحياة والعلم والقدرة [والإرادة] والكلام صريحا، فإن الإذن لا يكون إلا بالكلام والإرادة، وعلى السمع والبصر من لازم " له ما في السماوات وما في الأرض " ومن لازم " الحي " لأن المراد الحياة الكاملة; وكررت فيها الأسماء الشريفة ظاهرة ومضمرة سبع عشرة مرة بل إحدى وعشرين، ولم يتضمن هذا المجموع آية غيرها في كتاب الله، وهي خمسون كلمة على عدد الصلوات المأمور بها أولا في تلك الحضرة السماء حضرة العرش والكرسي فوق سدرة المنتهى، وبعدد ما استقرت عليه من رتبة الأجر آخرا، فكأنها مراق لروح قارئها إلى ذلك المحل الأسمى الذي هو آتيه الذي تعرج الملائكة والروح إليه في يوم [ ص: 40 ] كان مقداره خمسين ألف سنة، ولعل هذا سر ما ثبت من أنه لا يقرب من يقرؤها عند النوم شيطان، لأن من كان في حضرة الرحمن عال عن وساوس الشيطان - والله سبحانه وتعالى الموفق. "إن هذه الآية سيدة آي القرآن"