ولما ختم آيات القتال بالنفقة في سبيل الله لشدة حاجة الجهاد إليها وكان سبيل الله اسما يقع على الحج كما يقع على الجهاد كما ورد في الحديث رجع إلى الحج والعمرة المشير إليهما الحج من سبيل الله مثابة للناس و إن الصفا والمروة الآية، و مواقيت للناس والحج ولا سيما وآيات القتال هذه إنما نظمت ههنا بسببهما توصيلا إليهما وبعضها سببه عمرة الحديبية التي صد المشركون عنها، فكان كأنه قيل: مواقيت للناس والحج فحجوا واعتمروا أي تلبسوا بذلك وإن صددتم عنه وقاتلوا في سبيل الله من قاتلكم في وجهكم ذلك لينفتح لكم السبيل، ولما كان ذلك بعد الفتح ممكنا لا صاد عنه عبر بالإتمام فقال: وأتموا أي بعد فتح السبيل بالفتح [ ص: 125 ] الحج والعمرة بمناسكهما وحدودهما وشرائطهما وسننهما.
ولما تقدم الإنفاق في سبيل الله والقتال في سبيل الله نبه هنا على أن ذلك كله إنما هو لتقام العبادات التي هي مبنى الإسلام له سبحانه وتعالى فقال: لله الملك الذي لا كفؤ له أي لذاته، ولم يضمر لئلا يتقيد بقيد.
ولما كان سبحانه وتعالى قد بل جعل كفارة ذنوبها في إلقاء بأسها بينها أومأ إلى أنه ربما يقطعها عن الإتمام قاطع من ذلك بقوله بانيا للمفعول لأن الحكم دائر مع وجود الفعل من غير نظر إلى فاعل معين معبرا بأداة الشك إشارة إلى أن هذا مما يقل وقوعه: أعز هذه الأمة إكراما لنبيها صلى الله عليه وسلم فلا يهلكها بعامة ولا يسلط عليها عدوا من غيرها فإن أحصرتم أي منعتم وحبستم عن إتمامها، من [ ص: 126 ] كالمرض يحصره عن التصرف في شأنه - قاله الإحصار وهو منع العدو المحصر عن متصرفه الحرالي فما أي فالواجب على المحصر الذي منع عن إكماله تلافيا لما وقع له من الخلل في عملهما استيسر أي وجد يسرة على غاية السهولة حتى كأنه طالب يسر نفسه، واليسر حصول الشيء عفوا بلا كلفة من الهدي إذا أراد التحلل من الحج والعمرة من الإبل والبقر والغنم يذبحه حيث أحصر ويتصدق به وقد رجع حلالا [ ص: 127 ] ولما كان الحاج هو الشعث التفل أشار إلى حرمة التعرض لشعره بقوله: ولا تحلقوا رءوسكم أي شعرها إذا كنتم محرمين بحج أو عمرة، من الحلق.
قال : وهو إزالة ما يتأتى للزوال بالقطع من الآلة الماضية في عمله، والرأس مجتمع الخلقة ومجتمع كل شيء رأسه - انتهى. الحرالي
حتى يبلغ من البلاغ وهو الانتهاء إلى الغاية الهدي أي إن كان معكم هدي محله أي الموضع الذي يحل ذبحه فيه، إن كنتم محصرين فحيث أحصرتم وإلا فعند المروة أو في منى ونحوهما.
قال : والهدي ما تقرب به الأدنى للأعلى وهو اسم ما يتخذ فداء من الأنعام بتقديمه إلى الله سبحانه وتعالى وتوجيهه إلى الحرالي البيت العتيق ، وفي تعقيب الحلق بالهدي إشعار باشتراكهما في معنى واحد وهو الفداء، والهدي في الأصل فداء لذبح الناسك نفسه لله سنة إبراهيم في ولده عليهما الصلاة والسلام، وإزالة الشعر فداء من جزاء لرأس لله، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 128 ] عن تقديم أحدهما على الآخر قال: ، لأن الجميع غاية بالمعنى الشامل للفداء - انتهى. افعل ولا حرج
ولما كان الإنسان محلا لعوارض المشقة وكان الله سبحانه وتعالى قد وضع عنا الآصار ببركة النبي المختار صلى الله عليه وسلم فجعل دينه يسرا قال: فمن كان وقيده بقوله: منكم أيها المحرمون مريضا يرجى له بالحلق خير أو به أذى ولو قل، والأذى ما تعلق النفس أثره من رأسه بقمل أو غيره ففدية أي فعلية بحلق رأسه أو المداواة بما نهى المحرم عنه فدية من صيام لثلاثة أيام أو صدقة لثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين، لأن الصدقة كما قال عدل الصيام عند فقده كما [ ص: 129 ] تقدم. ولليوم وجبتا فطر وسحور، لكل وجبة مدان فلكل يوم صاع الحرالي أو نسك أي تقرب بذبح شيء من الأنعام وهذه فدية مخيرة.
ولما كان الله سبحانه وتعالى بسعة حمله وعظيم قدرته وشمول علمه قد أقام أسبابا تمنع المفسدين على كثرتهم من التمكن من الفساد أشار إلى ذلك بأداة التحقيق بعد تعبيره عن الإحصار بأداة الشك فقال: فإذا أمنتم أي حصلتم في الأمن فزال الإحصار [ ص: 130 ] والمرض، وبني الفعل هنا للفاعل إشارة إلى أنه كأنه آت بنفسه تنبيها على أنه الأصل بخلاف الإحصار حثا على الشكر فمن تمتع أي تلذذ باستباحة دخوله إلى الحرم بإحرامه في أشهر الحج على مسافة القصر من الحرم بالعمرة ليستفيد الحل حين وصوله إلى البيت ويستمر حلالا في سفره ذلك إلى الحج أي إحرامه به من عامة ذلك من مكة المشرفة من غير رجوع إلى الميقات فما أي فعليه ما استيسر وجد اليسر به من الهدي من النعم يكون هذا الهدي لأجل ما تمتع به بين النسكين من الحل وهو مسافر، هذا للمتمتع وأما القارن فلجمعه بين النسكين في سفر واحد وشأنهما أن يكونا في وقتين وقت حل ووقت حرم، وفي العبارة إشعار بصحة إرداف الحج على العمرة لأنه ترق من إحرام أدنى إلى إحرام أعلى.
ولما أفهم التقييد باليسر حالة عسر بينها بقوله: فمن لم [ ص: 129 ] يجد أي هديا، من الوجد وهو الطول والقدرة فصيام أي فعليه بدل الهدي صيام ثلاثة أيام في الحج أي في أيام تلبسه به فلا يصح قبله ويجب أن يكون قبل يوم عرفة بحيث يكون فيه مفطرا، " و " صيام " سبعة " أي من الأيام إذا رجعتم إلى بلادكم فلا تصح قبل الوصول، ولم يفرد ليفهم أن العبرة إمكان الرجوع لا حقيقة رجوعه، فلو أقام بمكة مثلا صام بها، ولو فاتته الثلاثة في الحج فرق بينها وبين السبعة في الوطن بقدر مدة إمكان العود وزيادة أربعة أيام التشريق والعيد ليحكي القضاء الأداء.
قال : فيكون الصوم عدلا للهدي الذي يطعمه المهدي كما كان الإطعام عدلا للصوم في آية الحرالي وعلى الذين يطيقونه انتهى.
ولما كان للتصريح مزية ليست لغيره قال: تلك [ ص: 132 ] أي العدة النفسية المأمور بصومها عشرة دفعا لاحتمال أن تكون الواو بمعنى "أو" أو أن يكون المراد بالسبع المبالغة دون الحقيقة وليحضر العدد في الذهن جملة كما أحضره تفصيلا; والعشرة:
قال : معاد عد الآحاد إلى أوله. الحرالي
ولما كان زمن الصومين مختلفا قال: كاملة نفيا لتوهم أن الصوم بعد الإحلال دون ما في الإحرام، والكمال:
قال : الانتهاء إلى الغاية التي ليس وراءها مزيد من كل وجه، وقال: فكما استوى حال الهدي في انتهائه إلى الحرم أو الحل كذلك استوى حال الصوم في الحرالي البلد الحرام والبلد الحلال ليكون في إشارته إشعار بأن الأرض لله مسجد كما أن البيت الحرام لله مسجد فأظهر معنى استوائهما في الكمال في حكم الأجر لأهل الأجور والقبول لأهل القبول والرضاء لأهل الرضاء [ ص: 133 ] والوصول لأهل الوجهة كل عامل على رتبة عمله - انتهى.
ولو قال: تامة، لم يفد هذا لأن التمام قد يكون في العدد مع خلل بعض الأوصاف.
ولما كان ربما وقع في الفكر السؤال عن هذا الحكم هل هو خاص أو عام استأنف تخصيصه بمن هو غائب عن حرم مكة على مسافة القصر فقال: ذلك أي الحكم المذكور العلي في نفعه الحكيم في وضعه لمن لم يكن أهله من زوجته أو أقاربه أو سكان وطنه.
وقال : والأهل سكن المرء من زوج ومستوطن الحرالي حاضري على مسافة الحضر بأن يكون ساكنا [ ص: 134 ] في الحرم أو من الحرم على دون مسافة القصر وكل من كان هكذا فهو حاضر من الحضور وهو ملازمة الوطن لا على مسافة السفر من المسجد الحرام أي الحرم بل كان أهله على مسافة الغيبة منه وهي مسافة القصر.
قال إفصاحا بما أفهمه معنى المتعة: وذلك لأن الله عز وجل إذا تولى إبانة عمل أنهاه إلى الغاية في الإفصاح - انتهى. الحرالي
وعبر عن الحرم بالمسجد إجلالا وتعظيما لما قرب من الحرم ، كما عظم الحرم بقربه من المسجد ، وعظم المسجد بمجاورة الكعبة ; لأنه جرت عادة الأكابر أن يكون لبيوتهم دور، ولدورهم أفنية، وحول تلك الأفنية بيوت خواصهم; وأما حاضروه فلا دم عليهم في تمتع ولا قران فرقا بين خاصة الملك وغيرهم.
ولما كثرت الأوامر في هذه الآيات وكان لا يحمل على [ ص: 135 ] امتثالها إلا التقوى أكثر تعالى فيها من الأمر بها.
قال : لما تجره النفوس من مداخل نقص في النيات والأعمال والتنقلات من الأحكام إلى أبدالها فما انبنى على التقوى خلص ولو قصر - انتهى. الحرالي
ولما كان من الأوامر ما هو معقول المعنى ومنها ما هو تعبدي وكان عقل المعنى يساعد على النفس في الحمل على امتثال الأمر ناسب اقتران الأمر به بالترغيب كما قال: واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ولما كان امتثال ما ليس بمعقول المعنى من عند قوله: وأتموا الحج والعمرة لله شديدا على النفس مع جماحها عن جميع الأوامر ناسب اقترانه بالتهديد فكان ختامه بقوله: واتقوا أي فافعلوا جميع ذلك واحملوا أنفسكم على التحري فيه والوقوف عند حدوده ظاهرا وباطنا واتقوا الله أي اجعلوا بينكم وبين غضب هذا الملك الأعظم وقاية، وأكد تعظيم المقام بالأمر [ ص: 136 ] بالعلم وتكرير الاسم الأعظم ولئلا يفهم الإضمار تقييد شديد عقابه بخشية مما مضى فقال: واعلموا تنبيها على أن الباعث على المخافة إنما هو العلم، أن الله أي الذي لا يداني عظمته شيء شديد العقاب وهو الإيلام الذي يتعقب به جرم سابق; هذا مع مناسبة هذا الختام لما بعده من النهي عن الرفث وما في حيزه، ومن تدبر الابتداء عرف الختم ومن تأمل الختم لاح له الابتداء.
قال الأستاذ في كتاب المفتاح في الباب الخامس في تنزلات القرآن بحسب الأسماء: اعلم أن خطاب الله يرد بيانه بحسب أسمائه ويجمعها جوامع أظهرها ما ترى آياته وهو اسمه الملك وما يتفصل إليه من الأسماء القيمة لأمر الحكم والقضاء والجزاء نحو العزيز الحكيم الذي يختم به آيات الأحكام أبو الحسن الحرالي نكالا من الله والله عزيز حكيم ثم ما تسمع آياته من اسمه الرحمن الرحيم وما يتفصل من الأسماء من [ ص: 137 ] معنى الرحمة المنبئة عن الصفح والمغفرة الذي تختم به آيات الرحمة
ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما فلكل تفصيل في مورد وجهي العدل والفضل أسماء يختص به بناؤها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ، ثم ما توجد آياته وجدانا في النفس وهي الربوبية وما ينتهي إليه معنى سواء أمرها من " الحمد لله رب العالمين " وما يتفصل إليه من الأسماء الواردة في ختم الإحاطات نحو " الواسع العليم " ، فمن تفطن لذلك استوضح من التفصيل الختم واستشرح من الختم التفصيل. ما لم يختم آية رحمة بعذاب أو آية عذاب برحمة
وقد كان ذلك واضحا عند العرب فاستعجم عند المتعربين إلا ما كان ظاهر الوضوح منه ولتكرار الأسماء بالإظهار والإضمار بيان متين الإفهام في القرآن - انتهى.