ولما كانت وكان العيش في أول الإسلام ضيقا والمال قليلا فكان ذلك موجبا لكل أحد أن يتمسك بما في يده ظنا أن في التمسك به النجاة وفي إنفاقه الهلاك أخبرهم أن الأمر على غير ما يسول به الشيطان من ذلك النفقة من أعظم دعائم الجهاد الشيطان يعدكم الفقر وقال : ولمكان ما لزم العفو من العز الذي جاء على خلاف غرض النفس نظم به تعالى ما يجيء على خلاف مدرك الحس في الإنفاق الذي يحصل به الزكاء والنماء، وأيضا لما أسس تعالى حكم الجهاد الذي هو أشق الأعمال على النفس نظم به أمر الجود والإنفاق الذي هو أشق منه على الأنفس، ومن حيث إن القتال مدافعة يشتمل على عدة وزاد لم يكن أمره يتم إلا [ ص: 120 ] بأعمال الغريزتين: الشجاعة والجود، ولذلك كان أشد الآفات في الدين البخل والجبن ، انتهى - فقال تعالى: الحرالي وأنفقوا وأظهر ولم يضمر إظهارا للاعتناء بأمر النفقة ولئلا يقيد بحيثية من الحيثيات فقال: في سبيل الله أي الملك الذي كل شيء تحت قهره كما قال:
وقاتلوا في سبيل الله وهو كل ما أمر به الله وإن كان استعماله في الجهاد أكثر، أي ولا تخافوا العيلة والضيعة فإن الله ربكم هو الذي أمركم بذلك والله يعدكم مغفرة منه وفضلا
قال : فالنظر للأموال بإنفاقها لا بإصلاحها وإثباتها فانتظم الخطابان ما في العفو من العز وما في الإنفاق من النماء، وأكد ذلك بالإعلام بما لا تصل إليه مدارك الأنفس من أن إصلاح الأموال وإمساكها تهلكة - انتهى. الحرالي
فقال تعالى: ولا تلقوا بأيديكم أي تسرعوا بوضعها إسراع من [ ص: 121 ] يلقي الشيء بعدم الإنفاق إلى التهلكة من الهلاك وهو تداعي الشيء إلى أن يبطل ويفنى فإن في ذلك الإخلاد إلى الدعة والتواكل فيجترئ عليكم العدو فلا يقوم لكم قائمة فإن البخل أسرع شيء إلى الهلاك ، وهي تفعلة بضم العين مصدر هلك، وقيل: إنه لا ثاني له في كلامهم، وحقيقة أوقع الإلقاء لما ينفعه من نفسه وغيرها بيده أي بنفسه فجعل التهلكة آخذة بها مالكة لصاحبها.
وقال : إحاطة الخطاب تقتضي أن التهلكة تضييع القتال والإنفاق اللذين بتركهما تقع الاستطالة على مبنى الإسلام فيتطرق إلى هدمه، ولما كان [ ص: 122 ] أمر الإنفاق أخص الحرالي بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال لتجرد المهاجرين عنها كان في ضمنه أن أكثر فصل الخطاب فيه للأنصار - انتهى.
وقد روى أبو داود - وهذا لفظه وقال: حسن صحيح - والترمذي والنسائي رضي الله تعالى عنه: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر أبي أيوب الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه وقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أقمنا في أموالنا! فأنزل الله هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو . عن
وروى في التفسير البخاري عن رضي الله تعالى عنه حذيفة وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال: نزلت في النفقة .
ولما كانت التوسعة في أمر القتال قد تجر إلى الاعتداء فختمه بالنهي عنه وبأن الله لا يحب المعتدين وكانت التوسعة في الإنفاق في سبيل الله من أعلى خلال الإيمان قال تعالى: وأحسنوا أي أوقعوا الإحسان على العموم بما أفهمه قصر الفعل [ ص: 123 ] وترك المتعلق بالإكثار من الإنفاق وظنوا بالله الحسن الجميل، وأظهر من غير إضمار لطول الفصل ولنحو ما تقدم إن الله الملك العظيم يحب المحسنين أي يفعل معهم كل ما يفعله المحب مع من يحبه من الإكرام والإعلاء والنصر والإغناء وغير ذلك من جميع ما يحتاجه كما أنه لا يحب المعتدين.
قال : فانتظم ختم الخطابين بأن لا يقع الاعتداء في القتل وأن يقع الإحسان في المال ، وفي إشعاره حض الحرالي الأنصار على إنفاق أموالهم يتلون به حال المهاجرين في التجرد عنها، فكما كان أمر المهاجرين أن لا ينقضوا الهجرة كان أمر الأنصار أن لا يلتفتوا إلى الدنيا، فما خرج المهاجرون عن أصله خرج الأنصار عند التمسك به عن وصفه، فكان إعراضهم [ ص: 124 ] تابعا لترك المهاجرين أموالهم.