[ ص: 10 ] [ ص: 11 ] مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
في ظلال القرآن
الحياة في ظلال القرآن نعمة . نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
والحمد لله.. لقد من علي بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
لقد عشت أسمع الله - سبحانه - يتحدث إلي بهذا القرآن.. أنا العبد القليل الصغير.. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟
وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة.. أنظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال.. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال. ولثغة الأطفال.. وأعجب.. ما بال هذا الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه؟
عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود.. لغاية الوجود كله، وغاية الوجود الإنساني.. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية، في شرق وغرب، وفي شمال وجنوب.. وأسأل.. كيف تعيش البشرية، في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي، وذلك المرتقى العالي، وذلك النور الوضيء؟
وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله.. ثم أنظر.. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها. وأقول في نفسي: أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟
يا حسرة على العباد!!! وعشت - في ظلال القرآن - أرى الوجود أكبر بكثير من ظاهره المشهود.. أكبر في حقيقته، وأكبر في تعدد جوانبه.. إنه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وإنه الدنيا والآخرة، لا هذه الدنيا وحدها.. والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول.. والموت ليس نهاية الرحلة وإنما هو مرحلة في الطريق. وما يناله الإنسان من شيء في هذه الأرض ليس نصيبه
[ ص: 12 ] كله، إنما هو قسط من ذلك النصيب. وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك. فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع. على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس، وعالم صديق ودود. كون ذي روح تتلقى وتستجيب، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=15ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ..
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده .. أي راحة، وأي سعة وأي أنس، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح؟
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الإنسان أكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد.. إنه إنسان بنفخة من روح الله:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=29فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين .. وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة .. ومسخر له كل ما في الأرض:
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=13وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا
.. ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة. جعلها آصرة العقيدة في الله.. فعقيدة المؤمن هي وطنه.
وهي قومه، وهي أهله.. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج! ..
والمؤمن ذو نسب عريق، وضارب في شعاب الزمان. إنه واحد من ذلك الموكب الكريم، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم:
نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ،
ويعقوب ويوسف ،
وموسى وعيسى ،
ومحمد .. عليهم الصلاة والسلام..
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=52وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ..
هذا الموكب الكريم، الممتد في شعاب الزمان من قديم، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن - مواقف متشابهة، وأزمات متشابهة، وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور، وتغير المكان، وتعدد الأقوام. يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى، والاضطهاد والبغي، والتهديد والتشريد. ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو، مطمئن الضمير، واثقا من نصر الله، متعلقا بالرجاء فيه، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=13وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا. فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=14ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .. موقف واحد وتجربة واحدة. وتهديد واحد. ويقين واحد. ووعد واحد للموكب الكريم.. وعاقبة واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف. وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد..
وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ، ولا للفلتة العارضة:
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=49إنا كل شيء خلقناه بقدر ..
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=2وخلق كل شيء فقدره تقديرا .. وكل أمر لحكمة. ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تتكشف للنظرة الإنسانية القصيرة:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=19فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل [ ص: 13 ] الله فيه خيرا كثيرا
..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون .. والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها، والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها. ذلك أنه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج، وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ الآثار والنتائج كما تنشئ الأسباب والمقدمات سواء:
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=29وما تشاءون إلا أن يشاء الله .. والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها; والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها.. والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين، والنجوة من الهواجس والوساوس:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=268الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم ..
ومن ثم عشت - في ظلال القرآن - هادئ النفس، مطمئن السريرة، قرير الضمير.. عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر. عشت في كنف الله وفي رعايته. عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها..
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=62أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=18وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ..
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=21والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ..
nindex.php?page=tafseer&surano=85&ayano=16فعال لما يريد ..
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2ومن يتق الله يجعل له مخرجا nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=3ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه. إن الله بالغ أمره ..
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ..
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=36أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ..
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=18ومن يهن الله فما له من مكرم ..
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=36ومن يضلل الله فما له من هاد .. إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء . فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة، والمشيئة المطلقة.. والله يخلق ما يشاء ويختار. كذلك تعلمت أن يد الله تعمل. ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة; وأنه ليس لنا أن نستعجلها; ولا أن نقترح على الله شيئا. فالمنهج الإلهي - كما يبدو في ظلال القرآن - موضوع ليعمل في كل بيئة، وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية، وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة.. وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض، آخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته، وقوته وضعفه، وحالاته المتغيرة التي تعتريه.. إن ظنه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض، أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته، سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة. كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدره وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه.. ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم! .. الإنسان هو هذا الكائن بعينه. بفطرته وميوله واستعداداته، يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به إلى أقصى درجات الكمال المقدر له بحسب تكوينه ووظيفته، ويحترم ذاته وفطرته ومقوماته، وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد إلى الله.. ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل - الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن - ومن ثم لم يكن معتسفا ولا عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج. إن المدى أمامه ممتد فسيح، لا يحده عمر فرد، ولا تستحثه رغبة فان، يخشى أن يعجله الموت عن
[ ص: 14 ] تحقيق غايته البعيدة; كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد، ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن! وفي الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر، وتسيل الدماء، وتتحطم القيم، وتضطرب الأمور. ثم يتحطمون هم في النهاية، وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها المذاهب المعتسفة! فأما الإسلام فيسير هينا لينا مع الفطرة ، يدفعها من هنا، ويردعها من هناك، ويقومها حين تميل، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها. إنه يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة.. والذي لا يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف.. فالزمن ممتد، والغاية واضحة، والطريق إلى الهدف الكبير طويل، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب بجذورها في التربة، وتتطاول فروعها وتتشابك.. كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء وعلى هينة وفي طمأنينة. ثم يكون دائما ما يريده الله أن يكون..
والزرعة قد تسفى عليها الرمال، وقد يأكل بعضها الدود، وقد يحرقها الظمأ، وقد يغرقها الري. ولكن الزارع البصير يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء، وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل فلا يعتسف ولا يقلق، ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة، السمحة الودود.. إنه المنهج الإلهي في الوجود كله.. " ولن تجد لسنة الله تبديلا " ..
والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود. ليس فلتة عابرة، ولا مصادفة غير مقصودة..
إن الله سبحانه هو الحق. ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=62ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير .. وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل:
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=5ما خلق الله ذلك إلا بالحق ..
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك! والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن .. ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر، ولا بد للباطل أن يزهق.. ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=18بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ..
والخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق، باقية بقاءه في الأرض:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها، فاحتمل السيل زبدا رابيا، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع، زبد مثله. كذلك يضرب الله الحق والباطل. فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. كذلك يضرب الله الأمثال ...
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=24ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=25تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=26ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=27يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ..
أي طمأنينة ينشئها هذا التصور؟ وأي سكينة يفيضها على القلب؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع الصغير يسكبها في الضمير؟
[ ص: 15 ] وانتهيت من فترة الحياة - في ظلال القرآن - إلى يقين جازم حاسم.. إنه لا صلاح لهذه الأرض، ولا راحة لهذه البشرية، ولا طمأنينة لهذا الإنسان، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة.. إلا بالرجوع إلى الله..
والرجوع إلى الله - كما يتجلى في ظلال القرآن - له صورة واحدة وطريق واحد.. واحد لا سواه.. إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم.. إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها. والتحاكم إليه وحده في شؤونها. وإلا فهو الفساد في الأرض، والشقاوة للناس، والارتكاس في الحمأة، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=50فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ..
إن الاحتكام إلى منهج الله في كتاب ليس نافلة ولا تطوعا ولا موضع اختيار، إنما هو الإيمان..
أو.. فلا إيمان..
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=36وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ..
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=18ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون. nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=19إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله ولي المتقين ..
والأمر إذن جد.. إنه أمر العقيدة من أساسها.. ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها..
إن هذه البشرية - وهي من صنع الله - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله; ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=82وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ..
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .. ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه، ولا تسلك في أمر نفسها، وفي أمر إنسانيتها، وفي أمر سعادتها أو شقوتها.. ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة.. وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز. ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه، فترده إلى المصنع الذي منه خرج، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب، الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه:
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=13إنه عليم بذات الصدور. nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=14ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ ..
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة. البشرية المسكينة الحائرة، البشرية التي لن تجد الرشد، ولن تجد الهدى، ولن تجد الراحة، ولن تجد السعادة، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير، كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير! ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها، ونكبة قاصمة في حياتها، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات..
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت الأرض، وأسنت الحياة، وتعفنت القيادات، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة; و
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=41ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ..
[ ص: 16 ] تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور.. فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته. لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم; كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء.. نعم! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال، والعظمة والارتفاع، والبساطة واليسر، والواقعية والإيجابية، والتوازن والتناسق ... بحيث لا يخطر للبشرية على بال، لولا أن الله أراده لها، وحققه في حياتها.. في ظلال القرآن، ومنهج القرآن، وشريعة القرآن.
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة; ونحي الإسلام عن القيادة. نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى، في صورة من صورها الكثيرة. صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان! إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية. يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى; ثم يقولون لها: اختاري!!! اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج الله!!! وهذا خداع لئيم خبيث. فوضع المسألة ليس هكذا أبدا.. إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني. إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة.. ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض. هذا المقام الذي منحه الله له، وأقدره عليه، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب المفروض عليه فيه; وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه; ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع.. على أن يكون الإبداع نفسه عبادة لله، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة; وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي الله. فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى.. فهم سيئو النية، شريرون، يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح، وأن تؤوب من المتاهة المهلكة، وأن تطمئن إلى كنف الله ...
وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية; ولكن ينقصهم الوعي الشامل، والإدراك العميق..
هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة. فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية، وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة; ويجعلون للقوانين الطبيعية مجالا، وللقيم الإيمانية مجالا آخر; ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم الإيمانية، وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا. اتبعوا منهج الله أم خالفوا عنه. حكموا بشريعة الله أم بأهواء الناس!
[ ص: 17 ] هذا وهم.. أنه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين. فهذه القيم الإيمانية هي بعض سنن الله في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء. ونتائجها مرتبطة ومتداخلة; ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن وفي تصوره.. وهذا هو التصور الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن. ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في نهاية المطاف:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=65ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم. nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=66ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . وينشئه وهو يتحدث عن وعد
نوح لقومه:
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=10فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفارا nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=11يرسل السماء عليكم مدرارا، nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=12ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا .. وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله الله بهم:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=11إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..
إن الإيمان بالله، وعبادته على استقامة، وإقرار شريعته في الأرض ... كلها إنفاذ لسنن الله.
وهي سنن ذات فاعلية إيجابية، نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحس والاختبار.
ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية، حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية.. هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق; ولكنها تظهر حتما في نهايته.. وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه. لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية. وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما. وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عندما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا..
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم. تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار، بينما جناحه الآخر مهيض، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني، ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك.. لولا أنهم لا يهتدون إلى منهج الله، وهو وحده العلاج والدواء.
إن شريعة الله للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون. فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون.. والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير. فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم. وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير، ونظافة في الشعور، وضخامة في الاهتمامات، ورفعة في الخلق، واستقامة في السلوك ... وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن الله كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية.. فكلها أطراف من سنة الله الشاملة لهذا الوجود.
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود. وعمله وإرادته، وإيمانه وصلاحه، وعبادته ونشاطه....
[ ص: 18 ]
مقدمة
هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود; وهي مرتبطة بسنة الله الشاملة للوجود.. وكلها تعمل متناسقة، وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع وتتناسق; بينما تفسد آثارها وتضطرب، وتفسد الحياة معها، وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم:
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=53ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين مجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع.
ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق، ولا يحول بين الناس وسنة الله الجارية، إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى; وينبغي لها أن تطارده، وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم..
هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن. لعل الله ينفع بها ويهدي.
وما تشاءون إلا أن يشاء الله..
سيد قطب
[ ص: 10 ] [ ص: 11 ] مُقَدِّمَةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ
الْحَيَاةُ فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ نِعْمَةٌ . نِعْمَةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا مَنْ ذَاقَهَا. نِعْمَةٌ تَرْفَعُ الْعُمْرَ وَتُبَارِكُهُ وَتُزَكِّيهِ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.. لَقَدْ مَنَّ عَلَيَّ بِالْحَيَاةِ فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَانِ، ذُقْتُ فِيهَا مِنْ نِعْمَتِهِ مَا لَمْ أَذُقْ قَطُّ فِي حَيَاتِي. ذُقْتُ فِيهَا هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي تَرْفَعُ الْعُمْرَ وَتُبَارِكُهُ وَتُزَكِّيهِ.
لَقَدْ عِشْتُ أَسْمَعُ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - يَتَحَدَّثُ إِلَيَّ بِهَذَا الْقُرْآنِ.. أَنَا الْعَبْدُ الْقَلِيلُ الصَّغِيرُ.. أَيُّ تَكْرِيمٍ لِلْإِنْسَانِ هَذَا التَّكْرِيمُ الْعُلْوِيُّ الْجَلِيلُ؟ أَيُّ رِفْعَةٍ لِلْعُمْرِ يَرْفَعُهَا هَذَا التَّنْزِيلُ؟ أَيُّ مَقَامٍ كَرِيمٍ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ خَالِقِهِ الْكَرِيمِ؟
وَعِشْتُ - فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ - أَنْظُرُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي تَمُوجُ فِي الْأَرْضِ، وَإِلَى اهْتِمَامَاتِ أَهْلِهَا الصَّغِيرَةِ الْهَزِيلَةِ.. أَنْظُرُ إِلَى تَعَاجُبِ أَهْلِ هَذِهِ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَا لَدَيْهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَطْفَالِ، وَتَصَوُّرَاتِ الْأَطْفَالِ، وَاهْتِمَامَاتِ الْأَطْفَالِ.. كَمَا يَنْظُرُ الْكَبِيرُ إِلَى عَبَثِ الْأَطْفَالِ، وَمُحَاوَلَاتِ الْأَطْفَالِ. وَلُثْغَةُ الْأَطْفَالِ.. وَأَعْجَبُ.. مَا بَالُ هَذَا النَّاسِ؟! مَا بَالُهُمْ يَرْتَكِسُونَ فِي الْحَمْأَةِ الْوَبِيئَةِ، وَلَا يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ الْعُلْوِيَّ الْجَلِيلَ. النِّدَاءُ الَّذِي يَرْفَعُ الْعُمْرَ وَيُبَارِكُهُ وَيُزَكِّيهِ؟
عِشْتُ أَتَمَلَّى - فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ - ذَلِكَ التَّصَوُّرُ الْكَامِلُ الشَّامِلُ الرَّفِيعُ النَّظِيفُ لِلْوُجُودِ.. لِغَايَةِ الْوُجُودِ كُلِّهِ، وَغَايَةُ الْوُجُودِ الْإِنْسَانِيِّ.. وَأَقِيسُ إِلَيْهِ تَصَوُّرَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي تَعِيشُ فِيهَا الْبَشَرِيَّةُ، فِي شَرْقٍ وَغَرْبٍ، وَفِي شَمَالٍ وَجَنُوبٍ.. وَأَسْأَلُ.. كَيْفَ تَعِيشُ الْبَشَرِيَّةُ، فِي الْمُسْتَنْقَعِ الْآسِنِ، وَفِي الدَّرْكِ الْهَابِطِ، وَفِي الظَّلَامِ الْبَهِيمِ وَعِنْدَهَا ذَلِكَ الْمَرْتَعُ الزَّكِيُّ، وَذَلِكَ الْمُرْتَقَى الْعَالِي، وَذَلِكَ النُّورُ الْوَضِيءُ؟
وَعِشْتُ - فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ - أَحُسُّ التَّنَاسُقَ الْجَمِيلَ بَيْنَ حَرَكَةِ الْإِنْسَانِ كَمَا يُرِيدُهَا اللَّهُ، وَحَرَكَةُ هَذَا الْكَوْنِ الَّذِي أَبْدَعَهُ اللَّهُ.. ثُمَّ أَنْظُرُ.. فَأَرَى التَّخَبُّطَ الَّذِي تُعَانِيهِ الْبَشَرِيَّةُ فِي انْحِرَافِهَا عَنِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، وَالتَّصَادُمِ بَيْنَ التَّعَالِيمِ الْفَاسِدَةِ الشِّرِّيرَةِ الَّتِي تُمْلَى عَلَيْهَا وَبَيْنَ فِطْرَتِهَا الَّتِي فَطَرَهَا اللَّهُ عَلَيْهَا. وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَيُّ شَيْطَانٍ لَئِيمٍ هَذَا الَّذِي يَقُودُ خُطَاهَا إِلَى هَذَا الْجَحِيمِ؟
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ!!! وَعِشْتُ - فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ - أَرَى الْوُجُودَ أَكْبَرَ بِكَثِيرٍ مِنْ ظَاهِرِهِ الْمَشْهُودِ.. أَكْبَرُ فِي حَقِيقَتِهِ، وَأَكْبَرُ فِي تَعَدُّدِ جَوَانِبِهِ.. إِنَّهُ عَالَمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لَا عَالَمُ الشَّهَادَةِ وَحْدَهُ. وَإِنَّهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، لَا هَذِهِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا.. وَالنَّشْأَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ مُمْتَدَّةٌ فِي شِعَابِ هَذَا الْمَدَى الْمُتَطَاوِلِ.. وَالْمَوْتُ لَيْسَ نِهَايَةَ الرِّحْلَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مَرْحَلَةٌ فِي الطَّرِيقِ. وَمَا يَنَالُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ لَيْسَ نَصِيبَهُ
[ ص: 12 ] كُلُّهُ، إِنَّمَا هُوَ قِسْطٌ مِنْ ذَلِكَ النَّصِيبِ. وَمَا يَفُوتُهُ هُنَا مِنَ الْجَزَاءِ لَا يَفُوتُهُ هُنَاكَ. فَلَا ظُلْمَ وَلَا بَخْسَ وَلَا ضَيَاعَ. عَلَى أَنَّ الْمَرْحَلَةَ الَّتِي يَقْطَعُهَا عَلَى ظَهْرِ هَذَا الْكَوْكَبِ إِنَّمَا هِيَ رِحْلَةٌ فِي كَوْنِ حَيٍّ مَأْنُوسٍ، وَعَالَمٍ صِدِّيقٍ وَدُودٍ. كَوَّنَ ذِي رُوحٍ تَتَلَقَّى وَتَسْتَجِيبُ، وَتَتَّجِهُ إِلَى الْخَالِقِ الْوَاحِدِ الَّذِي تَتَّجِهُ إِلَيْهِ رُوحُ الْمُؤْمِنِ فِي خُشُوعٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=15وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=44تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ .. أَيُّ رَاحَةٍ، وَأَيُّ سِعَةٍ وَأَيُّ أُنْسٍ، وَأَيُّ ثِقَةٍ يَفِيضُهَا عَلَى الْقَلْبِ هَذَا التَّصَوُّرُ الشَّامِلُ الْكَامِلُ الْفَسِيحُ الصَّحِيحُ؟
وَعِشْتُ - فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ - أَرَى الْإِنْسَانَ أَكْرَمَ بِكَثِيرٍ مِنْ كُلِّ تَقْدِيرٍ عَرَفَتْهُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ قَبْلٍ لِلْإِنْسَانِ وَمِنْ بَعْدِ.. إِنَّهُ إِنْسَانٌ بِنَفْخَةٍ مِنْ رُوحِ اللَّهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=29فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ .. وَهُوَ بِهَذِهِ النَّفْخَةِ مُسْتَخْلَفٌ فِي الْأَرْضِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .. وَمُسَخَّرٌ لَهُ كُلُّ مَا فِي الْأَرْضِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=13وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا
.. وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالسُّمُوِّ جَعَلَ اللَّهُ الْآصِرَةَ الَّتِي يَتَجَمَّعُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ هِيَ الْآصِرَةُ الْمُسْتَمَدَّةُ مِنَ النَّفْخَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْكَرِيمَةِ. جَعَلَهَا آصِرَةَ الْعَقِيدَةِ فِي اللَّهِ.. فَعَقِيدَةُ الْمُؤْمِنِ هِيَ وَطَنُهُ.
وَهِيَ قَوْمُهُ، وَهِيَ أَهْلُهُ.. وَمِنْ ثَمَّ يَتَجَمَّعُ الْبَشَرُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا، لَا عَلَى أَمْثَالِ مَا تَتَجَمَّعُ عَلَيْهِ الْبَهَائِمُ مِنْ كَلَأٍ وَمَرْعَى وَقَطِيعٍ وَسِيَاجٍ! ..
وَالْمُؤْمِنُ ذُو نَسَبٍ عَرِيقٍ، وَضَارِبٍ فِي شِعَابِ الزَّمَانِ. إِنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْكِبِ الْكَرِيمِ، الَّذِي يَقُودُ خُطَاهُ ذَلِكَ الرَّهْطُ الْكَرِيمُ:
نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ ،
وَيَعْقُوبُ وَيُوسُفُ ،
وَمُوسَى وَعِيسَى ،
وَمُحَمَّدٌ .. عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ..
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=52وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ..
هَذَا الْمَوْكِبُ الْكَرِيمُ، الْمُمْتَدُّ فِي شِعَابِ الزَّمَانِ مِنْ قَدِيمٍ، يُوَاجِهُ - كَمَا يَتَجَلَّى فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ - مَوَاقِفُ مُتَشَابِهَةٌ، وَأَزَمَاتٌ مُتَشَابِهَةٌ، وَتَجَارِبٌ مُتَشَابِهَةٌ عَلَى تَطَاوُلِ الْعُصُورِ وَكَرِّ الدُّهُورِ، وَتَغَيُّرِ الْمَكَانِ، وَتَعَدُّدِ الْأَقْوَامِ. يُوَاجِهُ الضَّلَالَ وَالْعَمَى وَالطُّغْيَانَ وَالْهَوَى، وَالِاضْطِهَادَ وَالْبَغْيَ، وَالتَّهْدِيدَ وَالتَّشْرِيدَ. وَلَكِنَّهُ يَمْضِي فِي طَرِيقِهِ ثَابِتَ الْخَطْوِ، مُطَمْئِنَّ الضَّمِيرِ، وَاثِقًا مِنْ نَصْرِ اللَّهِ، مُتَعَلِّقًا بِالرَّجَاءِ فِيهِ، مُتَوَقَّعًا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَعْدَ اللَّهِ الصَّادِقِ الْأَكِيدِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=13وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا. فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=14وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ .. مَوْقِفٌ وَاحِدٌ وَتَجْرِبَةٌ وَاحِدَةٌ. وَتَهْدِيدٌ وَاحِدٌ. وَيَقِينٌ وَاحِدٌ. وَوَعْدٌ وَاحِدٌ لِلْمَوْكِبِ الْكَرِيمِ.. وَعَاقِبَةٌ وَاحِدَةٌ يَنْتَظِرُهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ. وَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الِاضْطِهَادَ وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ..
وَفِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ تَعَلَّمْتُ أَنَّهُ لَا مَكَانَ فِي هَذَا الْوُجُودِ لِلْمُصَادَفَةِ الْعَمْيَاءِ ، وَلَا لِلْفَلْتَةِ الْعَارِضَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=49إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=2وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا .. وَكُلُّ أَمْرٍ لِحِكْمَةٍ. وَلَكِنَّ حِكْمَةَ الْغَيْبِ الْعَمِيقَةِ قَدْ لَا تَتَكَشَّفُ لِلنَّظْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْقَصِيرَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=19فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ [ ص: 13 ] اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا
..
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .. وَالْأَسْبَابُ الَّتِي تَعَارَفَ عَلَيْهَا النَّاسُ قَدْ تَتْبَعُهَا آثَارُهَا وَقَدْ لَا تَتْبَعُهَا، وَالْمُقَدِّمَاتُ الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ حَتْمِيَّةً قَدْ تَعْقُبُهَا نَتَائِجُهَا وَقَدْ لَا تَعْقُبُهَا. ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَتِ الْأَسْبَابُ وَالْمُقَدَّمَاتُ هِيَ الَّتِي تُنْشِئُ الْآثَارَ وَالنَّتَائِجَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْإِرَادَةُ الطَّلِيقَةُ الَّتِي تُنْشِئُ الْآثَارَ وَالنَّتَائِجَ كَمَا تُنْشِئُ الْأَسْبَابَ وَالْمُقَدِّمَاتِ سَوَاءٌ:
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=1لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=29وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ .. وَالْمُؤْمِنُ يَأْخُذُ بِالْأَسْبَابِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَخْذِ بِهَا; وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ آثَارَهَا وَنَتَائِجَهَا.. وَالِاطْمِئْنَانُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَإِلَى حِكْمَتِهِ وَعَلِمِهِ هُوَ وَحْدَهُ الْمَلَاذُ الْأَمِينُ، وَالنَّجْوَةُ مِنَ الْهَوَاجِسِ وَالْوَسَاوِسِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=268الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمُ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ..
وَمِنْ ثَمَّ عِشْتُ - فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ - هَادِئَ النَّفْسِ، مُطَمْئِنَّ السَّرِيرَةِ، قَرِيرَ الضَّمِيرِ.. عِشْتُ أَرَى يَدَ اللَّهِ فِي كُلِّ حَادِثٍ وَفِي كُلِّ أَمْرٍ. عِشْتُ فِي كَنَفِ اللَّهِ وَفِي رِعَايَتِهِ. عِشْتُ أَسْتَشْعِرُ إِيجَابِيَّةَ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَفَاعِلِيَّتِهَا..
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=62أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ؟ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=18وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=21وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=24وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=85&ayano=16فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=3وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. إِنَّ اللَّهِ بَالِغُ أَمْرِهِ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ..
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=36أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=18وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=36وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ .. إِنَّ الْوُجُودَ لَيْسَ مَتْرُوكًا لِقَوَانِينَ آلِيَّةٍ صَمَّاءَ عَمْيَاءَ . فَهُنَاكَ دَائِمًا وَرَاءَ السُّنَنِ الْإِرَادَةُ الْمُدَبِّرَةُ، وَالْمَشِيئَةُ الْمُطْلَقَةُ.. وَاللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ. كَذَلِكَ تَعَلَّمْتُ أَنَّ يَدَ اللَّهِ تَعْمَلُ. وَلَكِنَّهَا تَعْمَلُ بِطَرِيقَتِهَا الْخَاصَّةِ; وَأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَسْتَعْجِلَهَا; وَلَا أَنْ نَقْتَرِحَ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا. فَالْمَنْهَجُ الْإِلَهِيُّ - كَمَا يَبْدُو فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ - مَوْضُوعٌ لِيَعْمَلَ فِي كُلِّ بِيئَةٍ، وَفِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَرَاحِلِ النَّشْأَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَفِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ الْوَاحِدَةِ.. وَهُوَ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الَّذِي يَعِيشُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، آخِذٌ فِي الِاعْتِبَارِ فِطْرَةَ هَذَا الْإِنْسَانِ وَطَاقَاتِهِ وَاسْتِعْدَادَاتِهِ، وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ، وَحَالَاتِهِ الْمُتَغَيِّرَةِ الَّتِي تَعْتَرِيهِ.. إِنْ ظَنَّهُ لَا يَسُوءُ بِهَذَا الْكَائِنِ فَيَحْتَقِرُ دَوْرَهُ فِي الْأَرْضِ، أَوْ يُهْدِرُ قِيمَتَهُ فِي صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ، سَوَاءٌ وَهُوَ فَرْدٌ أَوْ وَهُوَ عُضْوٌ فِي جَمَاعَةٍ. كَذَلِكَ هُوَ لَا يَهِيمُ مَعَ الْخَيَالِ فَيَرْفَعُ هَذَا الْكَائِنَ فَوْقَ قَدْرِهِ وَفَوْقَ طَاقَتِهِ وَفَوْقَ مُهِمَّتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهُ اللَّهُ لَهَا يَوْمَ أَنْشَأَهُ.. وَلَا يَفْتَرِضُ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ أَنَّ مُقَوِّمَاتِ فِطْرَتِهِ سَطْحِيَّةٌ تَنْشَأُ بِقَانُونٍ أَوْ تَكْشِطُ بِجَرَّةِ قَلَمٍ! .. الْإِنْسَانُ هُوَ هَذَا الْكَائِنُ بِعَيْنِهِ. بِفِطْرَتِهِ وَمُيُولِهِ وَاسْتِعْدَادَاتِهِ، يَأْخُذُ الْمَنْهَجَ الْإِلَهِيَّ بِيَدِهِ لِيَرْتَفِعَ بِهِ إِلَى أَقْصَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ الْمُقَدِّرِ لَهُ بِحَسَبَ تَكْوِينِهِ وَوَظِيفَتِهِ، وَيَحْتَرِمُ ذَاتَهُ وَفِطْرَتَهُ وَمُقَوِّمَاتِهِ، وَهُوَ يَقُودُهُ فِي طَرِيقِ الْكَمَالِ الصَّاعِدِ إِلَى اللَّهِ.. وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ الْمَنْهَجَ الْإِلَهِيَّ مَوْضُوعٌ لِلْمَدَى الطَّوِيلِ - الَّذِي يَعْلَمُهُ خَالِقُ هَذَا الْإِنْسَانَ وَمُنْزِلُ هَذَا الْقُرْآنِ - وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكُنْ مُعْتَسِفًا وَلَا عَجُولًا فِي تَحْقِيقِ غَايَاتِهِ الْعُلْيَا مِنْ هَذَا الْمَنْهَجِ. إِنَّ الْمَدَى أَمَامَهُ مُمْتَدٌّ فَسِيحٌ، لَا يَحُدُّهُ عُمْرُ فَرْدٍ، وَلَا تَسْتَحِثُّهُ رَغْبَةُ فَانٍ، يَخْشَى أَنْ يُعَجِّلَهُ الْمَوْتُ عَنْ
[ ص: 14 ] تَحْقِيقِ غَايَتِهِ الْبَعِيدَةِ; كَمَا يَقَعُ لِأَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْضِيَّةِ الَّذِينَ يَعْتَسِفُونَ الْأَمْرَ كُلَّهُ فِي جِيلٍ وَاحِدٍ، وَيَتَخَطَّوْنَ الْفِطْرَةَ الْمُتَّزِنَةَ الْخُطَى لِأَنَّهُمْ لَا يَصْبِرُونَ عَلَى الْخَطْوِ الْمُتَّزِنِ! وَفِي الطَّرِيقِ الْعَسُوفِ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا تَقُومُ الْمَجَازِرُ، وَتَسِيلُ الدِّمَاءُ، وَتَتَحَطَّمُ الْقِيَمُ، وَتَضْطَرِبُ الْأُمُورُ. ثُمَّ يَتَحَطَّمُونَ هُمْ فِي النِّهَايَةِ، وَتَتَحَطَّمُ مَذَاهِبُهُمُ الْمُصْطَنَعَةُ تَحْتَ مَطَارِقِ الْفِطْرَةِ الَّتِي لَا تَصْمُدُ لَهَا الْمَذَاهِبُ الْمُعْتَسِفَةُ! فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَيَسِيرُ هَيِّنًا لَيِّنًا مَعَ الْفِطْرَةِ ، يَدْفَعُهَا مِنْ هُنَا، وَيَرْدَعُهَا مِنْ هُنَاكَ، وَيُقَوِّمُهَا حِينَ تَمِيلُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَكْسِرُهَا وَلَا يُحَطِّمُهَا. إِنَّهُ يَصْبِرُ عَلَيْهَا صَبْرَ الْعَارِفِ الْبَصِيرِ الْوَاثِقِ مِنَ الْغَايَةِ الْمَرْسُومَةِ.. وَالَّذِي لَا يَتِمُّ فِي هَذِهِ الْجَوْلَةِ يَتِمُّ فِي الْجَوْلَةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ أَوِ الْعَاشِرَةِ أَوِ الْمِائَةِ أَوِ الْأَلْفِ.. فَالزَّمَنُ مُمْتَدٌّ، وَالْغَايَةُ وَاضِحَةٌ، وَالطَّرِيقُ إِلَى الْهَدَفِ الْكَبِيرِ طَوِيلٌ، وَكَمَا تَنْبُتُ الشَّجَرَةُ الْبَاسِقَةُ وَتَضْرِبُ بِجُذُورِهَا فِي التُّرْبَةِ، وَتَتَطَاوَلُ فُرُوعُهَا وَتَتَشَابَكُ.. كَذَلِكَ يَنْبُتُ الْإِسْلَامُ وَيَمْتَدُّ فِي بُطْءٍ وَعَلَى هَيِّنَةٍ وَفِي طُمَأْنِينَةٍ. ثُمَّ يَكُونُ دَائِمًا مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ..
وَالزَّرْعَةُ قَدْ تُسْفَى عَلَيْهَا الرِّمَالُ، وَقَدْ يَأْكُلُ بَعْضَهَا الدُّودُ، وَقَدْ يَحْرِقُهَا الظَّمَأُ، وَقَدْ يُغْرِقُهَا الرِّيُّ. وَلَكِنَّ الزَّارِعَ الْبَصِيرَ يَعْلَمُ أَنَّهَا زَرْعَةٌ لِلْبَقَاءِ وَالنَّمَاءِ، وَأَنَّهَا سَتُغَالِبُ الْآفَاتِ كُلِّهَا عَلَى الْمَدَى الطَّوِيلِ فَلَا يَعْتَسِفُ وَلَا يَقْلَقُ، وَلَا يُحَاوِلُ إِنْضَاجَهَا بِغَيْرِ وَسَائِلِ الْفِطْرَةِ الْهَادِئَةِ الْمُتَّزِنَةِ، السَّمِحَةِ الْوَدُودِ.. إِنَّهُ الْمَنْهَجُ الْإِلَهِيُّ فِي الْوُجُودِ كُلِّهِ.. " وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا " ..
وَالْحُقُّ فِي مَنْهَجِ اللَّهِ أَصِيلٍ فِي بِنَاءِ هَذَا الْوُجُودِ. لَيْسَ فَلْتَةً عَابِرَةً، وَلَا مُصَادَفَةَ غَيْرِ مَقْصُودَةٍ..
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْحَقُّ. وَمِنْ وُجُودِهِ تَعَالَى يَسْتَمِدُّ كُلُّ مَوْجُودٍ وَجُودَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=62ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ .. وَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ هَذَا الْكَوْنَ بِالْحَقِّ لَا يَتَلَبَّسُ بِخَلْقِهِ الْبَاطِلِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=5مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=191رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ! وَالْحُقُّ هُوَ قِوَامُ هَذَا الْوُجُودِ فَإِذَا حَادَ عَنْهُ فَسَدَ وَهَلَكَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ .. وَمِنْ ثَمَّ فَلَا بُدَّ لِلْحَقِّ أَنْ يَظْهَرَ، وَلَا بُدَّ لِلْبَاطِلِ أَنْ يَزْهَقَ.. وَمَهْمَا تَكُنِ الظَّوَاهِرُ غَيْرَ هَذَا فَإِنَّ مَصِيرَهَا إِلَى تَكَشُّفٍ صَرِيحٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=18بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ..
وَالْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ وَالْإِحْسَانُ أَصِيلَةٌ كَالْحَقِّ، بَاقِيَةٌ بَقَاءَهُ فِي الْأَرْضِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ، زَبَدٌ مِثْلُهُ. كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ. كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ...
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=24أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةً أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=25تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=26وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=27يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ..
أَيُّ طُمَأْنِينَةٍ يُنْشِئُهَا هَذَا التَّصَوُّرُ؟ وَأَيُّ سَكِينَةٍ يَفِيضُهَا عَلَى الْقَلْبِ؟ وَأَيُّ ثِقَةٍ فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ؟ وَأَيُّ قُوَّةٍ وَاسْتِعْلَاءٍ عَلَى الْوَاقِعِ الصَّغِيرِ يَسْكُبُهَا فِي الضَّمِيرِ؟
[ ص: 15 ] وَانْتَهَيْتُ مِنْ فَتْرَةِ الْحَيَاةِ - فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ - إِلَى يَقِينٍ جَازِمٍ حَاسِمٍ.. إِنَّهُ لَا صَلَاحَ لِهَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَا رَاحَةَ لِهَذِهِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا طُمَأْنِينَةَ لِهَذَا الْإِنْسَانِ، وَلَا رِفْعَةَ وَلَا بَرَكَةَ وَلَا طَهَارَةَ، وَلَا تَنَاسُقَ مَعَ سُنَنِ الْكَوْنِ وَفِطْرَةِ الْحَيَاةِ.. إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ..
وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ - كَمَا يَتَجَلَّى فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ - لَهُ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَطَرِيقٌ وَاحِدٌ.. وَاحِدٌ لَا سِوَاهُ.. إِنَّهُ الْعَوْدَةُ بِالْحَيَاةِ كُلِّهَا إِلَى مَنْهَجِ اللَّهِ الَّذِي رَسَمَهُ لِلْبَشَرِيَّةِ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ.. إِنَّهُ تَحْكِيمُ هَذَا الْكِتَابِ وَحْدَهُ فِي حَيَاتِهَا. وَالتَّحَاكُمُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي شُؤُونِهَا. وَإِلَّا فَهُوَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَالشَّقَاوَةُ لِلنَّاسِ، وَالِارْتِكَاسُ فِي الْحَمْأَةِ، وَالْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي تَعْبُدُ الْهَوَى مِنْ دُونِ اللَّهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=50فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ؟ إِنَّ اللَّهِ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ..
إِنَّ الِاحْتِكَامَ إِلَى مَنْهَجِ اللَّهِ فِي كِتَابٍ لَيْسَ نَافِلَةً وَلَا تَطَوُّعًا وَلَا مَوْضِعَ اخْتِيَارٍ، إِنَّمَا هُوَ الْإِيمَانُ..
أَوْ.. فَلَا إِيمَانَ..
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=36وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=18ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=19إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ..
وَالْأَمْرُ إِذَنْ جِدٌّ.. إِنَّهُ أَمْرُ الْعَقِيدَةِ مِنْ أَسَاسِهَا.. ثُمَّ هُوَ أَمْرُ سَعَادَةِ هَذِهِ الْبَشَرِيَّةِ أَوْ شَقَائِهَا..
إِنَّ هَذِهِ الْبَشَرِيَّةَ - وَهِيَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ - لَا تَفْتَحُ مَغَالِيقَ فِطْرَتِهَا إِلَّا بِمَفَاتِيحَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ; وَلَا تُعَالِجُ أَمْرَاضَهَا وَعِلَلَهَا إِلَّا بِالدَّوَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ يَدِهِ - سُبْحَانَهُ - وَقَدْ جَعَلَ فِي مَنْهَجِهِ وَحْدَهُ مَفَاتِيحَ كُلِّ مُغْلَقٍ، وَشِفَاءَ كُلِّ دَاءٍ:
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=82وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ..
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .. وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبَشَرِيَّةَ لَا تُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ الْقُفْلَ إِلَى صَانِعِهِ، وَلَا أَنْ تَذْهَبَ بِالْمَرِيضِ إِلَى مُبْدِعِهِ، وَلَا تَسْلُكَ فِي أَمْرِ نَفْسِهَا، وَفِي أَمْرِ إِنْسَانِيَّتِهَا، وَفِي أَمْرِ سَعَادَتِهَا أَوْ شِقْوَتِهَا.. مَا تَعَوَّدَتْ أَنْ تَسْلُكَهُ فِي أَمْرِ الْأَجْهِزَةِ وَالْآلَاتِ الْمَادِّيَّةِ الزَّهِيدَةِ الَّتِي تَسْتَخْدِمُهَا فِي حَاجَاتِهَا الْيَوْمِيَّةِ الصَّغِيرَةِ.. وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّهَا تَسْتَدْعِي لِإِصْلَاحِ الْجِهَازِ مُهَنْدِسَ الْمَصْنَعِ الَّذِي صَنَعَ الْجِهَازَ. وَلَكِنَّهَا لَا تُطْبِقُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ عَلَى الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ، فَتَرُدُّهُ إِلَى الْمَصْنَعِ الَّذِي مِنْهُ خَرَجَ، وَلَا أَنْ تَسْتَفْتِيَ الْمُبْدِعَ الَّذِي أَنْشَأَ هَذَا الْجِهَازَ الْعَجِيبَ، الْجِهَازُ الْإِنْسَانِيُّ الْعَظِيمُ الْكَرِيمُ الدَّقِيقُ اللَّطِيفُ، الَّذِي لَا يَعْلَمُ مَسَارِبَهُ وَمَدَاخِلَهُ إِلَّا الَّذِي أَبْدَعَهُ وَأَنْشَأَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=13إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=14أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ ..
وَمِنْ هُنَا جَاءَتِ الشِّقْوَةُ لِلْبَشَرِيَّةِ الضَّالَّةِ. الْبَشَرِيَّةُ الْمِسْكِينَةُ الْحَائِرَةُ، الْبَشَرِيَّةُ الَّتِي لَنْ تَجِدَ الرُّشْدَ، وَلَنْ تَجِدَ الْهُدَى، وَلَنْ تَجِدَ الرَّاحَةَ، وَلَنْ تَجِدَ السَّعَادَةَ، إِلَّا حِينَ تَرُدُّ الْفِطْرَةَ الْبَشَرِيَّةَ إِلَى صَانِعِهَا الْكَبِيرِ، كَمَا تَرُدُّ الْجِهَازَ الزَّهِيدَ إِلَى صَانِعِهِ الصَّغِيرِ! وَلَقَدْ كَانَتْ تَنْحِيَةُ الْإِسْلَامِ عَنْ قِيَادَةِ الْبَشَرِيَّةِ حَدَثًا هَائِلًا فِي تَارِيخِهَا، وَنَكْبَةً قَاصِمَةً فِي حَيَاتِهَا، نَكْبَةٌ لَمْ تَعْرِفْ لَهَا الْبَشَرِيَّةُ نَظِيرًا فِي كُلِّ مَا أَلَمَّ بِهَا مِنْ نَكَبَاتٍ..
لَقَدْ كَاَنَ الْإِسْلَامُ قَدْ تَسَلَّمَ الْقِيَادَةَ بَعْدَ مَا فَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَأَسِنَتِ الْحَيَاةُ، وَتَعَفَّنَتِ الْقِيَادَاتُ، وَذَاقَتِ الْبَشَرِيَّةُ الْوَيْلَاتُ مِنَ الْقِيَادَاتِ الْمُتَعَفِّنَةِ; وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=41ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ..
[ ص: 16 ] تَسَلَّمَ الْإِسْلَامُ الْقِيَادَةَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَبِالتَّصَوُّرِ الْجَدِيدِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَبِالشَّرِيعَةِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنْ هَذَا التَّصَوُّرِ.. فَكَانَ ذَلِكَ مُوَلِّدًا جَدِيدًا لَلْإِنْسَانُ أَعْظَمُ فِي حَقِيقَتِهِ مِنَ الْمُوَلَّدِ الَّذِي كَانَتْ بِهِ نَشْأَتُهُ. لَقَدْ أَنْشَأَ هَذَا الْقُرْآنُ لِلْبَشَرِيَّةِ تَصَوُّرًا جَدِيدًا عَنِ الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْقِيَمِ وَالنَّظْمِ; كَمَا حَقَّقَ لَهَا وَاقِعًا اجْتِمَاعِيًّا فَرِيدًا، كَانَ يَعِزُّ عَلَى خَيَالِهَا تَصَوُّرُهُ مُجَرَّدَ تَصَوُّرٍ، قَبْلَ أَنْ يُنْشِئَهُ لَهَا الْقُرْآنُ إِنْشَاءً.. نَعَمْ! لَقَدْ كَانَ هَذَا الْوَاقِعُ مِنَ النَّظَافَةِ وَالْجَمَالِ، وَالْعَظَمَةِ وَالِارْتِفَاعِ، وَالْبَسَاطَةِ وَالْيُسْرِ، وَالْوَاقِعِيَّةِ وَالْإِيجَابِيَّةِ، وَالتَّوَازُنِ وَالتَّنَاسُقِ ... بِحَيْثُ لَا يَخْطُرُ لِلْبَشَرِيَّةِ عَلَى بَالٍ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ لَهَا، وَحَقَّقَهُ فِي حَيَاتِهَا.. فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ، وَمَنْهَجِ الْقُرْآنِ، وَشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ.
ثُمَّ وَقَعَتْ تِلْكَ النَّكْبَةُ الْقَاصِمَةُ; وَنُحِّيَ الْإِسْلَامُ عَنِ الْقِيَادَةِ. نُحِّيَ عَنْهَا لِتَتَوَلَّاهَا الْجَاهِلِيَّةُ مَرَّةً أُخْرَى، فِي صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهَا الْكَثِيرَةِ. صُورَةُ التَّفْكِيرِ الْمَادِّيِّ الَّذِي تَتَعَاجَبُ بِهِ الْبَشَرِيَّةُ الْيَوْمَ، كَمَا يَتَعَاجَبُ الْأَطْفَالُ بِالثَّوْبِ الْمُبَرْقَشِ وَاللُّعْبَةِ الزَّاهِيَةِ الْأَلْوَانَ! إِنَّ هُنَاكَ عِصَابَةً مِنَ الْمُضَلِّلِينَ الْخَادِعِينَ أَعْدَاءَ الْبَشَرِيَّةِ. يَضَعُونَ لَهَا الْمَنْهَجَ الْإِلَهِيَّ فِي كِفَّةٍ وَالْإِبْدَاعَ الْإِنْسَانِيَّ فِي عَالَمِ الْمَادَّةِ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى; ثُمَّ يَقُولُونَ لَهَا: اخْتَارِي!!! اخْتَارِي إِمَّا الْمَنْهَجُ الْإِلَهِيُّ فِي الْحَيَاةِ وَالتَّخَلِّي عَنْ كُلِّ مَا أَبْدَعَتْهُ يَدُ الْإِنْسَانِ فِي عَالَمِ الْمَادَّةِ، وَإِمَّا الْأَخْذُ بِثِمَارِ الْمَعْرِفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالتَّخَلِّي عَنْ مَنْهَجِ اللَّهِ!!! وَهَذَا خِدَاعٌ لَئِيمٌ خَبِيثٌ. فَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ هَكَذَا أَبَدًا.. إِنَّ الْمَنْهَجَ الْإِلَهِيَّ لَيْسَ عَدُوًّا لِلْإِبْدَاعِ الْإِنْسَانِيِّ. إِنَّمَا هُوَ مُنْشِئٌ لِهَذَا الْإِبْدَاعِ وَمُوَجَّهٌ لَهُ الْوِجْهَةَ الصَّحِيحَةَ.. ذَلِكَ كَيْ يَنْهَضَ الْإِنْسَانُ بِمُقَامِ الْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ. هَذَا الْمَقَامُ الَّذِي مَنَحَهُ اللَّهُ لَهُ، وَأَقْدَرَهُ عَلَيْهِ، وَوَهَبَهُ مِنَ الطَّاقَاتِ الْمَكْنُونَةِ مَا يُكَافِئُ الْوَاجِبَ الْمَفْرُوضَ عَلَيْهِ فِيهِ; وَسَخَّرَ لَهُ مِنَ الْقَوَانِينِ الْكَوْنِيَّةِ مَا يُعِينُهُ عَلَى تَحْقِيقِهِ; وَنَسَّقَ بَيْنَ تَكْوِينِهِ وَتَكْوِينِ هَذَا الْكَوْنِ لِيَمْلِكَ الْحَيَاةَ وَالْعَمَلَ وَالْإِبْدَاعَ.. عَلَى أَنْ يَكُونَ الْإِبْدَاعُ نَفْسُهُ عِبَادَةً لِلَّهِ، وَوَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ شُكْرِهِ عَلَى آلَائِهِ الْعِظَامِ، وَالتَّقَيُّدِ بِشَرْطِهِ فِي عَقْدِ الْخِلَافَةِ; وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ وَيَتَحَرَّكَ فِي نِطَاقِ مَا يُرْضِي اللَّهَ. فَأَمَّا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَضَعُونَ الْمَنْهَجَ الْإِلَهِيَّ فِي كِفَّةٍ، وَالْإِبْدَاعَ الْإِنْسَانِيَّ فِي عَالَمِ الْمَادَّةِ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى.. فَهُمْ سَيِّئُو النِّيَّةِ، شِرِّيرُونَ، يُطَارِدُونَ الْبَشَرِيَّةَ الْمُتْعَبَةَ الْحَائِرَةَ كُلَّمَا تَعِبَتْ مِنَ التِّيهِ وَالْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ، وَهَمَّتْ أَنْ تَسْمَعَ لِصَوْتِ الْحَادِي النَّاصِحِ، وَأَنْ تُؤَوِّبَ مِنَ الْمَتَاهَةِ الْمُهْلِكَةِ، وَأَنْ تَطْمَئِنَّ إِلَى كَنَفِ اللَّهِ ...
وَهُنَالِكَ آخَرُونَ لَا يَنْقُصُهُمْ حُسْنُ النِّيَّةِ; وَلَكِنْ يَنْقُصُهُمُ الْوَعْيُ الشَّامِلُ، وَالْإِدْرَاكُ الْعَمِيقُ..
هَؤُلَاءِ يُبْهِرُهُمْ مَا كَشَفَهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْقُوَى وَالْقَوَانِينِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَتَرُوعُهُمُ انْتِصَارَاتُ الْإِنْسَانِ فِي عَالَمِ الْمَادَّةِ. فَيَفْصِلُ ذَلِكَ الْبَهْرُ وَهَذِهِ الرَّوْعَةُ فِي شُعُورِهِمْ بَيْنَ الْقُوَى الطَّبِيعِيَّةِ وَالْقِيَمِ الْإِيمَانِيَّةِ، وَعَمَلِهَا وَأَثَرِهَا الْوَاقِعِيِّ فِي الْكَوْنِ وَفِي وَاقِعِ الْحَيَاةِ; وَيَجْعَلُونَ لِلْقَوَانِينِ الطَّبِيعِيَّةِ مَجَالًا، وَلِلْقِيَمِ الْإِيمَانِيَّةِ مَجَالًا آخَرَ; وَيَحْسَبُونَ أَنَّ الْقَوَانِينَ الطَّبِيعِيَّةَ تَسِيرُ فِي طَرِيقِهَا غَيْرَ مُتَأَثِّرَةٍ بِالْقِيَمِ الْإِيمَانِيَّةِ، وَتُعْطِي نَتَائِجَهَا سَوَاءٌ آمَنَ النَّاسُ أَمْ كَفَرُوا. اتَّبَعُوا مَنْهَجَ اللَّهِ أَمْ خَالَفُوا عَنْهُ. حَكَمُوا بِشَرِيعَةِ اللَّهِ أَمْ بِأَهْوَاءِ النَّاسِ!
[ ص: 17 ] هَذَا وُهِمَ.. أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ هُمَا فِي حَقِيقَتِهِمَا غَيْرَ مُنْفَصِلَيْنِ. فَهَذِهِ الْقِيَمُ الْإِيمَانِيَّةُ هِيَ بَعْضُ سُنَنِ اللَّهِ فِي الْكَوْنِ كَالْقَوَانِينِ الطَّبِيعِيَّةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَنَتَائِجُهَا مُرْتَبِطَةٌ وَمُتَدَاخِلَةٌ; وَلَا مُبَرِّرَ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فِي حِسِّ الْمُؤْمِنِ وَفِي تَصَوُّرِهِ.. وَهَذَا هُوَ التَّصَوُّرُ الصَّحِيحُ الَّذِي يُنْشِئُهُ الْقُرْآنُ فِي النَّفْسِ حِينَ تَعِيشُ فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ. يُنْشِئُهُ وَهُوَ يَتَحَدَّثُ عَنْ أَهْلِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَانْحِرَافِهِمْ عَنْهَا وَأَثَرِ هَذَا الِانْحِرَافِ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=65وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=66وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ . وَيُنْشِئُهُ وَهُوَ يَتَحَدَّثُ عَنْ وَعْدِ
نُوحٍ لِقَوْمِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=10فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=11يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=12وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا .. وَيُنْشِئُهُ وَهُوَ يَرْبُطُ بَيْنَ الْوَاقِعِ النَّفْسِيِّ لِلنَّاسِ وَالْوَاقِعِ الْخَارِجِيِّ الَّذِي يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِمْ:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=11إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..
إِنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَعِبَادَتِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَإِقْرَارِ شَرِيعَتِهِ فِي الْأَرْضِ ... كُلِّهَا إِنْفَاذٌ لِسُنَنِ اللَّهِ.
وَهِيَ سُنَنٌ ذَاتُ فَاعِلِيَّةٍ إِيجَابِيَّةٍ، نَابِعَةٍ مِنْ ذَاتِ الْمَنْبَعِ الَّذِي تَنْبَثِقُ مِنْهُ سَائِرُ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي نَرَى آثَارَهَا الْوَاقِعِيَّةَ بِالْحِسِّ وَالِاخْتِبَارِ.
وَلَقَدْ تَأْخُذُنَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مَظَاهِرُ خَادِعَةٌ لِافْتِرَاقِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، حِينَ نَرَى أَنَّ اتِّبَاعَ الْقَوَانِينِ الطَّبِيعِيَّةِ يُؤَدِّي إِلَى النَّجَاحِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْقِيَمِ الْإِيمَانِيَّةِ.. هَذَا الِافْتِرَاقُ قَدْ لَا تَظْهَرُ نَتَائِجُهُ فِي أَوَّلِ الطَّرِيقِ; وَلَكِنَّهَا تَظْهَرُ حَتْمًا فِي نِهَايَتِهِ.. وَهَذَا مَا وَقَعَ لِلْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ نَفْسِهِ. لَقَدْ بَدَأَ خَطُّ صُعُودِهِ مِنْ نُقْطَةِ الْتِقَاءِ الْقَوَانِينِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي حَيَاتِهِ مَعَ الْقِيَمِ الْإِيمَانِيَّةِ. وَبَدَأَ خَطُّ هُبُوطِهِ مِنْ نُقْطَةِ افْتِرَاقِهِمَا. وَظَلَّ يَهْبِطُ وَيَهْبِطُ كُلَّمَا انْفَرَجَتْ زَاوِيَةُ الِافْتِرَاقِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْحَضِيضِ عِنْدَمَا أَهْمَلَ السُّنَنَ الطَّبِيعِيَّةَ وَالْقِيَمَ الْإِيمَانِيَّةَ جَمِيعًا..
وَفِي الطَّرَفِ الْآخَرِ تَقِفُ الْحَضَارَةُ الْمَادِّيَّةُ الْيَوْمَ. تَقِفُ كَالطَّائِرِ الَّذِي يَرِفُّ بِجَنَاحٍ وَاحِدٍ جَبَّارٍ، بَيْنَمَا جَنَاحُهُ الْآخَرُ مَهِيضٌ، فَيَرْتَقِي فِي الْإِبْدَاعِ الْمَادِّيِّ بِقَدْرِ مَا يَرْتَكِسُ فِي الْمَعْنَى الْإِنْسَانِيِّ، وَيُعَانِي مِنَ الْقَلَقِ وَالْحَيْرَةِ وَالْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ مَا يَصْرُخُ مِنْهُ الْعُقَلَاءُ هُنَاكَ.. لَوْلَا أَنَّهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَنْهَجِ اللَّهِ، وَهُوَ وَحْدُهُ الْعِلَاجُ وَالدَّوَاءُ.
إِنَّ شَرِيعَةَ اللَّهِ لِلنَّاسِ هِيَ طَرَفٌ مِنْ قَانُونِهِ الْكُلِّيِّ فِي الْكَوْنِ. فَإِنْفَاذُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ إِيجَابِيٌّ فِي التَّنْسِيقِ بَيْنَ سِيرَةِ النَّاسِ وَسِيرَةِ الْكَوْنِ.. وَالشَّرِيعَةُ إِنْ هِيَ إِلَّا ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ لَا تَقُومُ وَحْدَهَا بِغَيْرِ أَصْلِهَا الْكَبِيرِ. فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِتَنْفُذَ فِي مُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ، كَمَا أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِتُسَاهِمَ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ. وَهِيَ مُتَكَامِلَةٌ مَعَ التَّصَوُّرِ الْإِسْلَامِيِّ كُلِّهِ لِلْوُجُودِ الْكَبِيرِ وَلِلْوُجُودِ الْإِنْسَانِيِّ، وَمَعَ مَا يُنْشِئُهُ هَذَا التَّصَوُّرُ مِنْ تَقْوَى فِي الضَّمِيرِ، وَنَظَافَةٍ فِي الشُّعُورِ، وَضَخَامَةٍ فِي الِاهْتِمَامَاتِ، وَرِفْعَةٍ فِي الْخُلُقِ، وَاسْتِقَامَةٍ فِي السُّلُوكِ ... وَهَكَذَا يَبْدُو التَّكَامُلُ وَالتَّنَاسُقُ بَيْنَ سُنَنِ اللَّهِ كُلِّهَا سَوَاءٌ مَا نُسَمِّيهِ الْقَوَانِينِ الطَّبِيعِيَّةِ وَمَا نُسَمِّيهِ الْقِيَمَ الْإِيمَانِيَّةَ.. فَكُلُّهَا أَطْرَافٌ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ الشَّامِلَةِ لِهَذَا الْوُجُودِ.
وَالْإِنْسَانُ كَذَلِكَ قُوَّةٌ مِنْ قُوَى الْوُجُودِ. وَعَمَلُهُ وَإِرَادَتُهُ، وَإِيمَانُهُ وَصَلَاحُهُ، وَعِبَادَتُهُ وَنَشَاطُهُ....
[ ص: 18 ]
مُقَدِّمَةٌ
هِيَ كَذَلِكَ قُوَى ذَاتُ آثَارٍ إِيجَابِيَّةٍ فِي هَذَا الْوُجُودِ; وَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِسُنَّةِ اللَّهِ الشَّامِلَةِ لِلْوُجُودِ.. وَكُلُّهَا تَعْمَلُ مُتَنَاسِقَةً، وَتُعْطِي ثِمَارَهَا كَامِلَةً حِينَ تَتَجَمَّعُ وَتَتَنَاسَقُ; بَيْنَمَا تَفْسَدُ آثَارُهَا وَتَضْطَرِبُ، وَتُفْسَدُ الْحَيَاةُ مَعَهَا، وَتَنْتَشِرُ الشِّقْوَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَالتَّعَاسَةُ حِينَ تَفْتَرِقُ وَتَتَصَادَمُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=53ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ .. فَالِارْتِبَاطُ قَائِمٌ وَثِيقٌ بَيْنَ عَمَلِ الْإِنْسَانِ وَشُعُورِهِ وَبَيْنَ مُجْرَيَاتِ الْأَحْدَاثِ فِي نِطَاقِ السُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِلْجَمِيعِ.
وَلَا يُوحِي بِتَمْزِيقِ هَذَا الِارْتِبَاطِ، وَلَا يَدْعُو إِلَى الْإِخْلَالِ بِهَذَا التَّنَاسُقِ، وَلَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَسُنَّةِ اللَّهِ الْجَارِيَةِ، إِلَّا عَدْوٌّ لِلْبَشَرِيَّةِ يُطَارِدُهَا دُونَ الْهُدَى; وَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُطَارِدَهُ، وَتُقْصِيَهُ مِنْ طَرِيقِهَا إِلَى رَبِّهَا الْكَرِيمِ..
هَذِهِ بَعْضُ الْخَوَاطِرِ وَالِانْطِبَاعَاتِ مِنْ فَتْرَةِ الْحَيَاةِ فِي ظِلَالِ الْقُرْآنِ. لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُ بِهَا وَيَهْدِي.
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ..
سَيِّدُ قُطْبٍ