أولا: الجدية والجلد العلمي:
يرتبط الإنتاج العلمي المتميز بالجدية والإصرار والعزيمة، ومن تأمل النتاج العلمي التراثي وجد أن الأعمال الراسخة الرصينة تطلبت قدرا من الجهد والوقت، ومن ذلك على سبيل المثال صنيع الإمام البخاري في صحيحه فقد قال عن نفسه: أخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث، وقال الفربري: قال لي محمد بن إسماعيل: ما وضعت في كتابي (الصحيح) حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك، وصليت ركعتين (انظر ترجمة البخاري في سير أعلام النبلاء).
وقال أبو جعفر محمود بن عمرو العقيلي: "لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث، قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة" (فتح الباري، 1 / 7 ).
ومن المسلمات أن النتاج العلمي والمادي يتأثر بطبيعة البيئة التي ينشأ فيها، بل إنها قد تتحول إلى جزء غير منفصل عنه.
وتعين المراجعة الفاحصة لواقع البحث العلمي المتصل بالتعليم الشرعي وبيئته على فهم كثير من ظروف إجرائه ونتاجه، كما أنها تقدم نظرة أكثر موضوعية له.
وإجمالا يمكن القول: إن بيئة البحث العلمي الحالية المتصلة بالتعليم الشرعي لا تحفز -في الأغلب- على الجلد العلمي، وبذل الجهد اللائق بتعليم [ ص: 132 ] العلوم الشرعية؛ ذلك أن معظم النتاج العلمي في هذا المجال يتركز في مسارين:
المسار الأول: إنتاج طلبة الدراسات العليا المتمثل في رسائل الماجستير والدكتوراه، وطلبة الدراسات العليا لا يزالون في مرحلة التدريب على منهج البحث ومهاراته، وبخاصة في الدراسات التربوية، التي يبدأ التخصص في كثير منها في مرحلة الماجستير.
وعادة ما يواجه طالب الدراسات العليا عاملين لهما أثر بالغ في مدى التزامه بالجدية والجلد العلمي، وهما:
1- ارتباط الموافقة على موضوع بحث الطالب وخطته بعدة لجان ومجالس علمية في الجامعة ، مما يعرض موضوع البحث وخطته لكثير من الآراء المتباينة، التي تؤثر في صياغتها، وفي الصورة النهائية التي يستقر عليها، مما يؤدي بالطالب أحيانا إلى ممارسة ما لا يتفق مع اقتناعاته رغبة في تمرير مشروعه، ناهيك عن أثر ذلك في إطالة المدة مما يجعله أمام هاجس الإنجاز.
2- ارتباط الدرجة العلمية، التي يكتب البحث من أجلها بعدد من المطالب المادية الشخصية مثل: الوجاهة والترقية والتعيين في السلم الجامعي... إلخ. و قد يؤثر هذا في اختيار بعض الباحثين لموضوعات بحثهم وتصميمهم منهج البحث المناسب لها، مما يقودهم للبحث عن أقصر الطرق وأيسرها لإنجازه، ويعوقهم عن مزيد من الإطلاع، والقراءة العميقة، والتأمل، وإثارة التساؤلات. [ ص: 133 ]
المسار الثاني: ارتباط إنتاج وبحوث معظم أعضاء هيئة التدريس في الجامعات بالترقية العلمية، التي تتطلب إنجـاز الأستاذ عددا من البحوث تؤهله للترقية؛ لذلك يعيش تحت ضغط الزمن وإلحاحه؛ فعلى سبيل المثال حين يشـارك بورقة علمية في أحـد المؤتمرات فإنه مطالب بإنجازها في وقت محدد قد لا يسمح له بكثير من التعمق والجلد في البحث، ويحدث مثل ذلك حين يعتزم نشر بحث علمي في دورية علمية أو أحد أوعية نشر البحث العلمي.
وبذلك يمكن القول: إن ظروف البحث العلمي في بيئة مؤسسات التعليم العالي في صورتها الحالية قد لا تساعد في كثير من الأحيان على تحقيق القدر اللازم من الجلد العلمي والتأمل، مما يترك أثره في جودة بعض الناتج البحثي، لذلك فإن القائمين على البحث العلمي في الجامعات بحاجة ماسة إلى تقويم واقع البحث العلمي، وتهيئة بيئة وظروف ملائمة تليق بالعلوم الشرعية ومكانتها.