تيسير العلم الشرعي
دائرة المستهدفين في التعليم الشرعي تتسع لتستوعب عامة المسلمين وجمهورهم، وليست قاصرة على طلاب العلم الشرعي وحدهم؛ فكل مسلم يحتاج إلى أن يتعلم المسائل الضرورية في أمور دينه، في الاعتقاد، والعبادات، والمعاملات، والسلوك والأدب.. وغير ذلك من مسائل الدين.
وهؤلاء جمهور عريض، فيهم العامي ضعيف التعليم، وفيهم المتعلم والمثقف، لكنه ضعيف التحصيل الشرعي، فلا يستوعب الألفاظ والمصطلحات الشرعية، ولا تصنيف العلوم الشرعية وتبويبها.
ومع توقف حركة إنتاج الجديد في تصنيف العلوم الشرعية والتمحور حول المتون والمختصرات والحواشي اتجهت كثير من التصنيفات إلى التعقيد والإلغاز والصعوبة، ولم يقف تأثير ذلك على بيئة التعلم الشرعي التي تحتضن طلاب العلم والمختصين، إنما ترك أثره على لغة بعض طلبة العلم في فتاواهم وحديثهم مع العامة، والبرامج الموجهة لهم في المساجد، وقد لا يسلم منه بعض ما يقدم في وسائل الإعلام.
وربما ارتبطت الصعوبة والتعقيد بالجودة لدى بعض طلبة العلم، وأصبح من معايير الثناء على العالم أو المصنف والشعور بقيمته العلمية العالية: أن [ ص: 123 ] فهم إنتاجه العلمي يتطلب جهدا عاليا، وأن ذلك لا يتيسر إلا لفئة محدودة من طلاب العلم.
وأساس العلم ومصدره كتاب الله عز وجل، وقد أخبر تبارك وتعالى عن تيسيره، فقال سبحانه: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17).
وقال تبارك وتعالى: ( فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ) (الدخان:58).
ودلالة نصوص تيسير القرآن الكريم لا تنتهي عند مجرد وصف كتاب الله سبحانه وتعالى بذلك، بل تتجاوزه إلى تأكيد أن الأصل في العلم هو التيسير، وبركة العلم إنما تنال بذلك، ولو كان التيسير قصورا أو مذمة لكان كتاب الله عز وجل أجدر ما يتنزه عنه.
وكان المعلم الأول صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس تيسيرا في تعليمه، فقد قال عن نفسه: ( إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا ) (أخرجه مسلم، 1478).
ووصفت عائشة، رضي الله عنها، حديثه صلى الله عليه وسلم بقولها: ( كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلا، يفهمه كل من سمعه ) (أخرجه أبو داود، 4839).
وعن عروة بن الزبـير، عن عائشـة، رضي الله عنها، أنـها قالت: "ألا يعجبك أبو فلان، جاء فجلس إلى جـانب حـجرتي، يحدث عن [ ص: 124 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك، وكنت أسبح فقام قبل أن أقضي سبحتي! ولو أدركته لرددت عليه؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم " (أخرجه البخاري، 3568؛ ومسلم، 2493).
وقد انتقد طائفة من أهل العلم مسلك التعسير في التعليم الشرعي، قال ابن القيم، رحمه الله: "إن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدرات الأذهان ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه، فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر كما قال تعالى: ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17)، قال البخاري في صحيحه: قال مطر الوراق: هل من طالب علم فيعان عليه؟ ولم يقل: فتضيع عليه مصالحه، وتتعطل معايشه عليه، وسنة رسوله وهي -بحمد الله تعالى- مضبوطة محفوظة، وأصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث، وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث، وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات الأذهان وأغلوطات المسائل والفروع والأصول التي ما أنزل الله بها من سلطان، التي كل ما لها في نمو وزيادة وتوليد، والدين كل ما له في غربة ونقصان، والله المستعان" (إعلام الموقعين، 2 / 182 -183).
ويصف خالد الصمـدي نمط التعـليم الذي تلقاه في شبابه بقوله: "ولا زلت أذكر أننا كنا ندرس رسـالة ابن أبي زيد القـيرواني كمادة علمية في التعليم الثانوي دون أن يبذل المدرس أدنى جهد في تحويل مادة [ ص: 125 ] الكتاب إلى مادة تعليمية تناسب عقولنا وتجيب عن أسئلتنا" (أزمة التعليم الديني، ص49).
ويبين محمد البشير الإبراهيمي منهج جمعية العلماء في التعليم فيقول: "أما الدروس الأخرى فإن الجمعية تختار لها من الكتب ما هو أقرب إلى الإفادة، وأعون على تحصيل الملكة العلمية، وتجتنب الكتب الجامدة المعقدة التي لا تفتق ذهنا ولا تبعث في نفس الدارس نشاطا، وتختار للمطالعة في مختلف العلوم الكتب الحية السهلة، وليس هذا محل تفصيل القول في الكتب وما لها من أثر في نفس الدارس والمطالع، وما لها من دخل في نتائج التعليم، وإن ميدان القول فيها وفي صالحها وفاسدها لفسيح، وإن في رجال الجمعية البارزين لمن هو من أهل الاختصاص في هذا الباب". (آثار محمد البشير الإبراهيمي، 1 / 193 ).
إن التعليم الشرعي اليوم بحاجة إلى جهود عالية في تيسيره وتقريبه للناس، ومن صور ذلك التيسير:
- تحفيز طلاب العلم عليه، وبيان تنوع طرق تحصيله، والحذر من المبالغة عند الحديث عن جدية طالب العلم وصبره وتضحيته؛ فبعض الشيوخ يعتني بالغرائب في هذا الباب ليحفز المتعلمين، لكنها قد تقود إلى الإحباط واليأس.
- إعداد مؤلفات معاصرة تجمع بين العمق والرصانة، وتقريب العلم الشرعي لصغار الطلبة، ولغير المتخصصين بلغة يفهمونها وترتبط بواقعهم.
- تيسير لغة التدريس وأسلوبه، بما يناسب المتعلمين. [ ص: 126 ]