المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسـنا ومن سيئات أعمـالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:
فإن شريعة الإسلام قد جاءت لهداية البشر إلى الطريق السوي، إقامة للعدل والإنصاف، وتحريرا [1] من عبودية الهوى والشهوات، ومن عبودية تسلط الإنسان على أخيه الإنسان، ومن عبودية الخرافات والرؤى والتصورات والمعتقدات الخاطئة، وإسعادا للإنسان في هـذه الحياة الدنيا، قناعة بما رزقه الله من مال وطاقات وقدرات، ناظرا إلى من هـو دونه لتكبر في عينيه نعم الله الواسعة، إخلاصا في السير وتحملا للمشقة والصعوبات احتسابا عند الله، وساعيا لتكميل وظيفة الاستخلاف الإنساني وأدائها في الإعمار والبناء واكتشاف السنن [ ص: 27 ] الكونية والطاقات والقدرات المكنونة في أجزاء الكون المسخر للإنسان، واستغلالها لعمليات البناء والنهوض، وتمثيل الموقف الوسط في الشهود الحضاري، والقيام بوظائف الإرشاد والتوجيه والتأثير.
جاءت واجبات الدين المتعلقة بالفرد لتحقيق مقصد الشارع من قيام كل فرد من أفراد المجتمع بها، واجبا عينيا على كل فرد؛ تزكية للنفس، وتبيانا للطاعة، وتجنبا للعصيان، ومشاركة ضرورية لكل فرد في الواجبات الاجتماعية، والأداء لوظائف التعمير.. وجاءت واجبات الدين المتعلقة بالأمة للقيام بمقتضيات المجتمع القائد، الرائد، الشاهد على الأمم، في نسق تضامني اجتماعي، تحقيقا لمقصد الشارع في حفظ مصالح الأمة، بغض النظر عن الفرد القائم بذلك، فجاء التكليف للجماعة والأمة بسد الثغرات والوقوف على الواجبات الجماعية، حفظا لكيان الأمة، ودفاعا عنه، وإعلاء لكلمة الله، وكشفا للأخطاء والإخفاقات، ثم سعيا للعلاج بعد تحديد السبل والطرق، وذلك إعمارا للكون وإكمالا لوظيفة الاستخلاف ومقاصد التسخير، فكان واجب الكفاية إذا قام به «البعض» بوجه أكمل سقط الإثم عن الباقين، بعد تحقق مقصد الشارع من سنها.. ولأهمية هـذه الواجبات في واقع الأمة ومستقبلها تم تكليف الجماعة والأمة [ ص: 28 ] القيام بها، وحمل إثم التفريط فيها على الأمة بأكملها، بما فرطوا في أمر هـو عظيم الخطر، في أغلب الأحيان، على مستقبل الأمة وكيانها ووظيفتها وطبيعتها الإرشادية، القيادية، الشاهدة على الناس كلهم.
وبما أن الأمة قد مرت عليها فترة تاريخية تمكن الآخرون فيها من مصائرها، وتعطلت إرادتها وخيارها عن تمثيل كيانها والاهتمام بشأنها، لم تعد تخطط لمستقبلها أو القيام بالواجبات الكفائية التي شرعت للحفاظ على المصالح العامة، شديدة الأثر على حياة الأمة ونموها وقدرتها على أداء دورها، فتعطلت جل الواجبات الكفائية أو انحصر فهمها حول قضايا ومسائل المصير الفردي من كفن وجنازة ونحوها بدل فهمها في ضوء قضايا المصير الجماعي، وبذلك تعطلت مصالح ومقتضيات جماعية كثيرة، تراجعت بسببها الأمة عن أداء دورها في الشهود الحضاري، واعتلاء موقع العطاء والأخذ، الذي أصبح بيد الآخرين، وتحولت إلى موقع التبعية.
إن مجتمعاتنا تعاني من تخلف مأساوي في تحقيق مقاصد الشرع والمصالح العامة والشهود الحضاري، لذلك فإن تعبئة طاقات الأمة وتحريكها لخوض المعركة المصيرية ضد هـذا التخلف، الذي يعوق حل [ ص: 29 ] مشاكل وقضايا الأمة الكبرى، الداخلية والخارجية، هـو ضرورة موضوعية [2] .
إن شحذ الهمم إنما يتم عبر الفهم الصحيح لواجبات الدين، لتنظيم سير الحياة وحلقاتها المتداخلة وإزالة بصمات عصور التخلف، التي تضمنت تهميش الحياة العامة ومقتضيات الشهود والنهوض والتنمية والرقي عن اهتمامات التدين؛ وحصر التدين في المظاهر التعبدية الفردية الخاصة، الأمر الذي أدى إلى ترك المجال وإفساحه لصناعة غد بلداننا ومستقبلها وفق مخطط الأقوياء، من الدول الاستعمارية وفي ضوء استراتيجياتها، معتمدة في ذلك على موازين الغلبة في الصراع الحضاري ومراعية مقتضيات الأمن القومي لبلدانهم في مجتمعاتنا، وذلك في غياب شبه كامل لإرادة الأمة ومصالحها المستقبلية. [ ص: 30 ]
يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة في إشارة إلى أهمية فهم الأبعاد الحقيقية للواجبات الكفائية: «وقضية أخرى كانت ولا تزال جديرة بالبحث أيضا، ونحن بصدد تأصيل منهج إخراج الأمة الوسط، وهي غياب الأبعاد الحقيقية لمفهوم فروض الكفاية ، وموقعها كواجبات اجتماعية، تساهم بتماسك نسيج الأمة الاجتماعي وتشعرها بالمسئولية التضامنية وتنتهي بها إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي على مختلف الأصعدة.
لقد هـمشت فروض الكفاية حتى كادت تقتصر على قضايا المصير وكل ما يتعلق بمجالات الوفاة ولوازمها من التغسيل والتكفين وحمل الجنازة ودفنها، بعيدا عن إبراز دورها في آفاق الحياة المتعددة في كل ما له علاقة بمهمة الاستخلاف الإنساني، والتعمير الحضاري، وأهمية تقديمها على الفروض الفردية، وإدراك دورها في حياة الأمة وتأمين حاجاتها من مختلف التخصصات المطلوبة، والتي تصبح بعد اختيارها فروضا عينية على أصحابها، هـذا إضافة إلى انكماش مفهومها في الذهن المسلم المعاصر.. فالمعروف من مفهوم فروض الكفاية أنه إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، ومعنى قام به: أداه على الوجه الأكمل إلى درجة الكفاية الاجتماعية، ولا يعني ذلك بحال من الأحوال مباشرته فقط، كما هـو شائع، سواء وصل إلى درجة الكفاية وتحقيق الاكتفاء، أم لا». [3] [ ص: 31 ] ويقول الدكتور نبيل صبحي الطويل : «والتكامل الإسلامي الذي هـو أصلا فرض على الفرد وأولي الأمر في إطار الأمة، يصبح الآن أيضا ضرورة استراتيجية - بلغة العصر - وسلاحا فعالا للدفاع عن عقيدة المسلمين ووجودهم الكريم، ومواجهة المحاولات الخبيثة المستمرة التي يتعرضون لها». [4] وفي هـذا البحث، محاولة لإلقاء الضوء والتوضيح لمعنى « الواجب الكفائي » و «العيني» ومقاصد الشرع في التكليف بهما، وآثار الفهم القاصر لفروض الكفاية على الأمة وكيانها ودورها، مع بيان أسباب هـذا الفهم القاصر، وضرورة المراجعة والتصحيح له، تأصيلا للمفاهيم التي تنعكس آثارها على واقع الأمة، وتجديدا للدين في حياتنا العامة، ذلك أن الحل لمشاكل الأمة العويصة يكمن -فيما أرى- في التصدي للقيام بالواجبات الكفائية على الوجه الأكمل. [ ص: 32 ]