( 4572 ) مسألة قال : ( وإذا ادعاه مسلم وكافر ، أري القافة ، فبأيهما ألحقوه لحق ) يعني إذا ادعي نسبه ، فلا تخلو دعوى نسب اللقيط من قسمين أحدهما أن ينفرد بدعواه ، فينظر ; فإن كان المدعي رجلا مسلما حرا ، لحق نسبه به ، بغير خلاف بين أهل العلم ، إذا أمكن أن يكون منه ; لأن الإقرار محض نفع للطفل لاتصال نسبه ، ولا مضرة على غيره فيه ، فقبل ، كما لو أقر له بمال . ثم إن كان المقر به ملتقطه ، أقر في يده . وإن كان غيره ، فله أن ينتزعه من الملتقط ; لأنه قد ثبت أنه أبوه ، فيكون أحق بولده ، كما لو قامت به بينة . وإن كان المدعي له عبدا ، لحق به أيضا ; لأن لمائه حرمة ، فلحق به نسبه [ ص: 44 ] كالحر . وهذا قول يدعيه واحد وغيره ، غير أنه لا تثبت له حضانة ; لأنه مشغول بخدمة سيده ، ولا تجب عليه نفقته ; لأنه لا مال له ، ولا على سيده ; لأن الطفل محكوم بحريته ، فتكون نفقته في بيت المال . وإن كان المدعي ذميا ، لحق به ; لأنه أقوى من العبد في ثبوت الفراش ، فإنه يثبت له بالنكاح والوطء في الملك . وقال الشافعي : لا يلحق به ; لأنه محكوم بإسلامه . ولنا أنه أقر بنسب مجهول النسب ، يمكن أن يكون منه ، وليس في إقراره إضرار بغيره ، فيثبت إقراره ، كالمسلم . إذا ثبت هذا ، فإنه يلحق به من النسب لا في الدين ، ولا حق له في حضانته . وقال أبو ثور ، في أحد قوليه : يتبعه في دينه ; لأن كل ما لحقه في نسبه يلحق به في دينه ، كالبينة ، إلا أنه يحال بينه وبينه ، ولنا أن هذا حكم بإسلامه ، فلا يقبل قول الذمي في كفره ، كما لو كان معروف النسب ; ولأنها دعوى تخالف الظاهر ، فلم تقبل بمجردها ، كدعوى رقه ، ولأنه لو تبعه في دينه لم يقبل إقراره بنسبه ; لأنه يكون إضرارا به ، فلم تقبل ، كدعوى الرق . أما مجرد النسب بدون اتباعه في الدين ، فمصلحة عارية عن الضرر ، فقبل قوله فيه . ولا يجوز قبوله فيما هو أعظم الضرر والخزي في الدنيا والآخرة . وإن كان المدعي امرأة ، فاختلف عن الشافعي ، رحمه الله ، فروي أن دعواها تقبل ، ويلحقها نسبه ; لأنها أحد الأبوين ، فيثبت النسب بدعواها ، كالأب ، ولأنه يمكن أن يكون منها ، كما يمكن أن يكون ولد الرجل ، بل أكثر ; لأنها تأتي به من زوج ، ووطء بشبهة ، ويلحقها ولدها من الزنى دون الرجل ، ولأن في قصة أحمد داود وسليمان عليهما السلام ، حين تحاكم إليهما امرأتان كان لهما ابنان ، فذهب الذئب بأحدهما ، فادعت كل واحدة منهما أن الباقي ابنها ، وأن الذي أخذه الذئب ابن الأخرى ، فحكم به داود للكبرى ، وحكم به سليمان للأخرى ، بمجرد الدعوى منهما . وهذا قول بعض أصحاب . فعلى هذه الرواية ، يلحق بها دون زوجها ; لأنه لا يجوز أن يلحقه نسب ولد لم يقر به . وكذلك إذا ادعى الرجل نسبه ، لم يلحق بزوجته . فإن قيل : الرجل يمكن أن يكون له ولد من امرأة أخرى ، أو من أمته ، والمرأة لا يحل لها نكاح غير زوجها ، ولا يحل وطؤها لغيره . قلنا : يمكن أن تلد من وطء شبهة أو غيره . وإن كان الولد يحتمل أن يكون موجودا قبل أن يتزوجها هذا الزوج ، أمكن أن يكون من زوج آخر . فإن قيل : إنما قبل الإقرار بالنسب من الزوج ، لما فيه من المصلحة ، بدفع العار عن الصبي ، وصيانته عن النسبة إلى كونه ولد زنا ، ولا يحصل هذا بإلحاق نسبه بالمرأة ، بل إلحاقه بها دون زوجها تطرق للعار إليه وإليها . قلنا : بل قبلنا دعواه ; لأنه يدعي حقا لا منازع له فيه ، ولا مضرة على أحد فيه ، فقبل قوله فيه ، كدعوى المال ، وهذا متحقق في دعوى المرأة . والرواية الثانية ، أنها إن كان لها زوج ، لم يثبت النسب بدعواها ، لإفضائه إلى إلحاق النسب بزوجها بغير إقراره ولا رضاه ، أو إلى أن امرأته وطئت بزنا أو شبهة ، وفي ذلك ضرر عليه ، فلا يقبل قولها فيما يلحق الضرر به . وإن لم يكن لها زوج ، قبلت دعواها لعدم هذا الضرر . وهذا أيضا وجه لأصحاب الشافعي . والرواية الثالثة ، نقلها الشافعي الكوسج عن ، في أحمد : إن كان لها إخوة أو [ ص: 45 ] نسب معروف ، لا تصدق إلا ببينة ، وإن لم يكن لها دافع ، لم يحل بينها وبينه ; لأنه إذا كان لها أهل ونسب معروف ، لم تخف ولادتها عليهم ، ويتضررون بإلحاق النسب بها ، لما فيه من تعييرهم بولادتها من غير زوجها ، وليس كذلك إذا لم يكن لها أهل . ويحتمل أن لا يثبت النسب بدعواها بحال . وهذا قول امرأة ادعت ولدا ، الثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأي . قال وأبي ثور : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم ، على أن النسب لا يثبت بدعوى المرأة ; لأنها يمكنها إقامة البينة على الولادة ، فلا يقبل قولها بمجرده ، كما لو علق زوجها طلاقها بولادتها . ولنا أنها أحد الوالدين ، فأشبهت الأب ، وإمكان البينة لا يمنع قبول القول ، كالرجل ، فإنه تمكنه البينة أن هذا ولد على فراشه . وإن كان المدعي أمة ، فهي كالحرة ، إلا أننا إذا قبلنا دعواها في نسبه ، لم نقبل قولها في رقه ; لأننا لا نقبل الدعوى فيما يضره ، كما لم نقبل الدعوى في كفره إذا ادعى نسبه كافر . ابن المنذر