( فصل )
ويفسد به الإحرام سواء فعله عامدا ، أو ساهيا ، وسواء كان عالما بأنه محرم ، [ ص: 250 ] أو بأن الوطء حرام عليه ، أو بأنه مفسد ، أو جاهل ببعض ذلك . هذا نصه ومذهبه ؛ قال - في رواية أبي طالب - : قال سفيان : ثلاثة في الحج العمد والنسيان سواء ؛ إذا أتى أهله ، وإذا أصاب صيدا ، وإذا حلق رأسه .
قال أحمد : إذا جامع أهله بطل حجه ؛ لأنه شيء لا يقدر على رده ، والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده ، والصيد إذا قتله : فقد ذهب لا يقدر على رده ، فهذه الثلاثة العمد والنسيان والخطأ وكل شيء من النسيان بعد هذه الثلاثة فهو يقدر على رده ، مثل إذا غطى رأسه ، ثم ذكر ألقاها عن رأسه وليس عليه شيء أو لبس ثوبا ، أو خفا نزعه وليس عليه شيء ، وقال في -رواية صالح وحنبل - : من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوعا عنه يلزمه لو أن لا يكون عليه شيء ، وإذا قتل صيدا ناسيا لا يكون عليه شيء . وطئ أهله وهو محرم
ويتخرج أنه لا يفسد الإحرام بوطء الجاهل والناسي ولا شيء عليه كرواية عنه في قتل الصيد لا سيما وقد سوى هو بين الجماع وقتل الصيد .
وقد خرج أصحابنا تخريجا أن الحلق والتقليم مثل قتل الصيد ، فيلحق الجماع بذلك .
[ ص: 251 ] وقد يقال : الجماع أولى بذلك من قتل الصيد لأنه أقرب إلى الاستمتاع الذي هو اللباس والطيب من قتل الصيد ، فإنه إتلاف محض ، وعلى رواية ذكرها بعض أصحابنا : أن جماع الناسي لا يبطل الصوم .
ويتخرج أنه يوجب الكفارة ولا يبطل الإحرام كإحدى الروايتين فيمن حيث قلنا يبطل الصوم ولا كفارة فيه ، فإن إبطال الصوم نظير إيجاب الكفارة في الإحرام ، ووجوب الكفارة هناك نظير فساد الإحرام ، لأن كفارة الصوم لا يجب الإجماع به ، كما لا يبطل الإحرام إلا بالجماع بخلاف ما يفسد الصيام ويوجب الكفارة في الإحرام فإنه متعدد . جامع ناسيا أو جاهلا
لكن محظورات الإحرام عند أصحابنا أغلظ من محظورات الصيام لوجهين ؛ أحدهما : أن الإحرام في نفسه أوكد من الصيام من وجوه متعددة ، مثل : كونه لا يقع إلا لازما ، ولا يخرج منه بالفساد ، وكونه يحرم فيه جميع المباشرات وكونه لا يخرج منه بالأعذار .
الثاني : أن الإحرام عليه علامة تدل عليه من التجرد والتلبية وأعمال النسك [ ص: 252 ] ورؤية المشاعر ، ومخالطة الحجيج . فلا يعذر فيه بالنسيان بخلاف الصيام فإنه ترك محض ؛ ووجه هذا عموم قوله سبحانه : ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال الله سبحانه : قد فعلت .
وإيجاب القضاء والهدي : مؤاخذة ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : . وأيضا : فإن الجماع منهي عنه والمقصود تركه ، وما نهي عنه إذا فعل سهوا أو نسيانا : لم يكن فاعله عاصيا ولا مخالفا بل يكون وجود فعله كعدمه ، ومن سلك هذه الطريقة طردها في جميع المنهيات . عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه
وأيضا : فإن الجماع استمتاع ، ففرق بين عمده وسهوه ، كاللباس والطيب ، وعكسه الحلق وقتل الصيد .
[ ص: 253 ] ووجه المذهب : ما تقدم في جماع الناسي في رمضان ، فهنا أولى .
وأيضا : فإن ما تقدم من الحديث المرفوع ، وفتاوى الصحابة في أوقات متفرقة لسؤل شتى ليس فيها استفصال للسائل هل فعلت هذا عالما أو جاهلا ، ولو في بعض تلك الوقائع ؛ فإن المسلم الذي قد أم بيت الله وهو معظم لحرماته إذا وقع منه الجماع : فوقوعه منه لعدم علمه بتحريمه ، أو اعتقاده زوال الإحرام ، أو نسيانه أنه محرم أظهر من وقوعه منه عالما بأنه محرم ذاكرا لإحرامه ، لا سيما والعهد قريب ، والدين غض والسابقون الأولون بين ظهرانيهم ، وقد يظهر هذا الاحتمال في مثل الذي واقع امرأته بعد السعي قبل التقصير فإنه موضع شبهة قد اعتقد جماعة من العلماء جواز ذلك ، ويؤيد ظهوره في تلك الوقائع : أنه لم ينقل فيها توبيخ للمجامع ، وتقريع له ، وإكبار لما فعله ، وإعظام له ؛ مع أن جماع [ ص: 254 ] المحرم من الذنوب الشديدة ، وهو انتهاك للحرمة ، وتعد للحدود ، ولولا استشعار المفتين نوع عذر للسؤال لأغلظوا لهم في الكلام .
وأيضا : ما احتج به أحمد وهو أن الجماع أمر قد وقع واستقر فلا يمكن رده وتلافيه بقطعه وإزالته ، فصار مثل الإتلافات ؛ مثل قتل الصيد ، وحلق الشعر حيث لا يمكن رد التلف ولا إعادته ، وعكسه الطيب واللباس ؛ فإنه يمكن نزع اللباس وإزالة الطيب إذا ذكر وعلم التحريم ، وذلك مثل الكفارة الماحية لما صدر منه ، ولهذا أمر أن يفزع إلى التلبية ، وهاهنا المجامع إذا ذكر بعد قضاء الجماع وعلم التحريم : لم يمكن منه فعل : فيه قطع لما مضى ولا ترك له .
يبين هذا : أن الجابرة لما فعل ، والماحية للذنب الذي انعقد سببه ، والزاجرة عن قلة التيقظ والاستذكار . ولهذا وجبت الكفارة بقتل المسلم خطأ مع أن الدية بدل عنه ، ووجبت الكفارة بعود المظاهر وإن كان ناسيا أو جاهلا . فالمحظور المستدام يمكن الإقلاع عنه ، ومفارقته ، فجعل هذا كفارة له عند من يقول به . ومحظور قد فات على وجه لا يمكن رده ولا تركه ، فلا بد من كفارة . المحرم قد نهي عن أشياء ، فإذا فعلها ناسيا فالنسيان يزيل العقوبة ولا يزيل عنه الكفارة
ولا يصح أن يقال : فما مضى من اللباس والطيب لا يمكن رده ؛ لأن اللباس والطيب المستدام فعل واحد ، ولهذا لو لم يجب عليه كفارة أخرى ، فإزالته إزالة لنفس ما أوجب الكفارة . كفر عنه واستدامه إلى آخر الإحرام
والجماع المتكرر : أفعال متفرقة كقتل صيود ؛ ولهذا لو : كان عليه كفارة أخرى فذلك الجماع الذي وقع منه لا سبيل إلى استدراكه ورد البتة ؛ يبين هذا : أن اللابس والمتطيب يتأتى منه امتثال النهي عند العلم والذكر لمفارقة المنهي عنه بخلاف المجامع والقاتل ، فإنه لا يتأتى منه الامتثال بالفعل لكن بالعزم . كفر عن جماع ، ثم جامع
فإن قيل : فلو لبس وتطيب ، وأزالهما ثم ذكر .
قيل : ذانك الفعلان مبناهما على الاستدامة فإذا لم يستدمهما كان أولى أن [ ص: 255 ] لا تجب عليه كفارة ، وطرده المجامع لو ذكر فنزع فإن نزعه لا يعد مفارقة للمحظور لأنه لا بد من نزع قريب ، فلم يكن بذلك النزع متلافيا لما فرط فيه .
وأيضا : فإن الجماع سبب يوجب القضاء فاستوى عمده وسهوه كالفوات ، ولا يصح الفرق بكون الفوات ، بترك ركن ، وهذا ، بفعل محظور ، لأن القتل ، والعلم فعل محظور وقد أوجب مقتضاه .
وأيضا : فإن الجماع أغلظ المحظورات وأكبر المنهيات وجنسه لا يخلو عن موجب ومقتض فإنه لا يقع باطلا قط ؛ فإنه إن وقع في ملك قرر الملك بحيث يستقر المهر إن كانت زوجة ، ويستقر الثمن والملك إن كانت جارية معيبة أو فيها خيار . عمدا وقع ، أو سهوا ، وإن وقع في غير الملك فلا يخلو عن عقر ، أو عقر وعقوبة ، أو عقوبة فقط عند من يقول به ، وهو ينشر حرمة المصاهرة في ملك اليمين ، والنكاح الفاسد ، والوطء بالشبهة بالإجماع .
فإذا وقع في الإحرام الذي هو أغلظ العبادات ولم يكن له أثر : كان إخراجا له عن حقيقته ومقتضاه لا سيما والمحرم معه من العلامات على إحرامه ما يذكره بحاله ، ويزجره عن مواقعة هذا المحظور .
وأيضا : فإن إفساده للإحرام من باب خطاب الوضع والأخبار الذي هو : ترتيب الأحكام على الأسباب .
[ ص: 256 ] وقد دلت السنة والإجماع : على أن الجماع محرم ، وأنه يفسد الإحرام ، ويوجب القضاء والهدي . فإذا فعله ناسيا ، أو جاهلا ؛ كان ذلك عذرا في الذم والعقاب اللذين هما من توابع المعصية للأمر والنهي . أما جعل ذلك مانعا من إفساد الحج وإيجاب القضاء والهدي : فلا بد له من دليل ، فإن ما كان من باب ترتيب الأحكام على الأسباب لا يؤثر فيه هذا إلا بدليل . وأكثر الأصول التي يقع فيها الفساد ويجب القضاء إذا وجد المفسد مع العذر فمن ذلك الطهارة فإنها تفسد بوجود مفسداتها عمدا وسهوا ، والصلاة تبطل بوجود العمل الكثير عمدا وسهوا ، أو بمرور القاطع بين يديه عمدا أو سهوا ، وفي الكلام والأكل خلاف معروف ، وكذلك ملك النكاح ما يطرأ عليه فيفسده من صهر ورضاع وغيرهما لا فرق بين.... وملك الأموال .
وموجبات الكفارات - في غالب الأمر - : يوجبها مع العمد والسهو ككفارة القتل ، والظهار ، وترك واجبات الحج ، والحج قد يغلظ على غيره ، فإلحاقه بأكثر الأصول أولى من إلحاقه بأقلها ، ثم لم يجئ أصل في ذلك إلا في الأكل في الصيام .
فأما ما دون الجماع من المحظورات : فما قيل فيه أنه يفسد الإحرام فهو كالجماع ، وأما ما لا يفسده ... .