ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) وهذه الآية فيها مسائل :
المسألة الأولى : احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في
nindex.php?page=treesubj&link=33677_28717_29443_29624_28730نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة ، وقالوا : لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام ، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له ، وذلك باطل بصريح قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء ) ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر ، فيقال : إما أن يكون المراد (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء ) في ماهيات الذات ، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء ، والثاني باطل ؛ لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين ، كما أن الله تعالى يوصف بذلك ، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين ، مع أن الله تعالى يوصف بذلك ، فثبت أن المراد بالمماثلة
[ ص: 130 ] المساواة في حقيقة الذات ، فيكون المعنى أن شيئا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية ، فلو كان الله تعالى جسما ، لكان كونه جسما ذاتا لا صفة ، فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية ، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة ، فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتا ، والنص ينفي ذلك ، فوجب أن لا يكون جسما .
واعلم أن
nindex.php?page=showalam&ids=13114محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه "بالتوحيد" ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك ، واعترض عليها ، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات ، لأنه كان رجلا مضطرب الكلام ، قليل الفهم ، ناقص العقل ، فقال : " نحن نثبت لله وجها ، ونقول : إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء ، ونقول : إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك والفناء ، ونفى عنها الجلال والإكرام ، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء ، ولو كان مجرد
nindex.php?page=treesubj&link=29714_28717_33677_29624إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال : إن لبني آدم وجوها وللخنازير والقردة والكلاب وجوها ، لكان قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب . ثم قال : ولا شك أنه اعتقاد
الجهمية ؛ لأنه لو قيل له : وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء ، فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه " .
وذكر في فصل آخر من هذا الكتاب " أن القرآن دل على وقوع التسوية بين ذات الله تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة ، ولم يلزم منها أن يكون القائل مشبها ، فكذا ههنا " ونحن نعد الصور التي ذكرها على الاستقصاء .
فالأول : أنه تعالى قال في هذه الآية (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11وهو السميع البصير ) وقال في حق الإنسان (
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=2فجعلناه سميعا بصيرا ) [الإنسان : 2] .
الثاني : قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=105وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ) [التوبة : 105] وقال في حق المخلوقين (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=79ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ) [النحل : 79]
الثالث : قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=37واصنع الفلك بأعيننا ) [هود : 37] (
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=48واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) [الطور : 48] وقال في حق المخلوقين (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=83ترى أعينهم تفيض من الدمع ) [المائدة : 83]
الرابع : قال لإبليس (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=75ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) [ص : 75] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=64بل يداه مبسوطتان ) [المائدة : 64] وقال في حق المخلوقين (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=51ذلك بما قدمت أيديكم ) [الأنفال : 51] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=10ذلك بما قدمت يداك ) ، [الحج : 10] (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=10إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) ، [الفتح : 10]
الخامس : قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرحمن على العرش استوى ) [طه : 5] وقال في الذين يركبون الدواب (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=13لتستووا على ظهوره ) [الزخرف : 13] وقال في سفينة
نوح (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=44واستوت على الجودي ) [هود : 44]
السادس : سمى نفسه عزيزا ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=23العزيز الجبار ) [الحشر : 23] ، ثم ذكر هذا الاسم في حق المخلوقين بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=78ياأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا ) [يوسف : 78] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=88ياأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر ) [يوسف : 88] .
السابع : سمى نفسه بالملك ، وسمى بعض عبيده أيضا بالملك ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=54وقال الملك ائتوني به ) [يوسف : 54] وسمى نفسه بالعظيم ، ثم أوقع هذا الاسم على المخلوق ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=129رب العرش العظيم ) [التوبة : 129]
nindex.php?page=treesubj&link=29622_29477_33677وسمى نفسه بالجبار المتكبر ، وأوقع هذا الاسم على المخلوق ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=35كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ) [غافر : 35] ثم طول في ضرب الأمثلة من هذا الجنس ، وقال : ومن وقف على الأمثلة التي ذكرناها أمكنه الإكثار منها ، فهذا ما أورده هذا الرجل في هذا الكتاب .
[ ص: 131 ]
وأقول : هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين ، وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين ، ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية ، فنقول : المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته ، وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى ، فنقول : المعتبر في كل شيء ، إما تمام ماهيته ، وإما جزء من أجزاء ماهيته ، وإما أمر خارج عن ماهيته ، ولكنه من لوازم تلك الماهية ، وإما أمر خارج عن ماهيته ، ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية ، وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به ، وذلك معلوم بالبديهة ، فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة ، ثم صارت في غاية السواد والحلاوة ، فالذات باقية والصفات مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة ، وأيضا نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في غاية البياض ، فالذات باقية والصفات متبدلة ، والباقي غير المتبدل ، فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات .
إذا عرفت هذا فنقول :
nindex.php?page=treesubj&link=29445_28724اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات البتة ، لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكنا ثم يصير متحركا ، ثم يسكن بعد ذلك ، فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد ، والصفات متعاقبة متزايلة ، فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات ، إذا عرفت هذا فنقول : الأجسام منها تألف وجه الكلب والقرد - مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس ، وإنما حصل الاختلاف بسبب الأعراض القائمة ، وهي الألوان والأشكال والخشونة والملاسة وحصول الشعور فيه وعدم حصولها ، فالاختلاف إنما وقع بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض ، فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات ، فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار ، ولقد صدقوا ، فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر الصفات ، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية ، فثبت أن الكلام الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام ، وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها ، لا الأعراض والصفات القائمة بها ، بقي ههنا أن يقال : فما الدليل على أن الأجسام كلها متماثلة ؟ فنقول : لنا ههنا مقامان :
المقام الأول : أن نقول : هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة ، فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود ، وإن كانت ممنوعة ، فنقول : فلم لا يجوز أن يقال : إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي ، ويكون ذلك الجسم مخالفا لماهية سائر الأجسام ، فكان هو قديما أزليا واجب الوجود ، وسائر الأجسام محدثة مخلوقة ، ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه ؟ فإن قالوا : هذا باطل ؛ لأن القرآن دل على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة ، فيقال : هذا من باب الحماقة المفرطة ؛ لأن صحة القرآن وصحة نبوة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله ، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به .
والمقام الثاني : أن علماء الأصول أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات والحقيقة ، وإذا ثبت هذا ظهر أنه لو كان إله العالم جسما لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام ، إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل ، أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح على سائر الأجسام ، فيلزم كونه محدثا مخلوقا قابلا للعدم والفناء قابلا للتفرق والتمزق .
وأما النقل فقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11ليس كمثله شيء ) فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل ، وعند هذا يظهر أنا لا نقول بأنه متى حصل الاستواء في
[ ص: 132 ] الصفة لزم حصول الاستواء في تمام الحقيقة ، إلا أنا نقول : لما ثبت أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، فلو كانت ذاته جسما لكان ذلك الجسم مساويا لسائر الأجسام في تمام الماهية ، وحينئذ يلزم أن يكون كل جسم مثلا له ؛ لما بينا أن المعتبر في حصول المماثلة اعتبار الحقائق من حيث هي هي ، لا اعتبار الصفات القائمة بها ، فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن حجة أهل التوحيد في غاية القوة ، وأن هذه الكلمات التي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها ؛ لأنه كان بعيدا عن معرفة الحقائق ، فجرى على منهج كلمات العوام ، فاغتر بتلك الكلمات التي ذكرها ، ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : احْتَجَّ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=33677_28717_29443_29624_28730نَفْيِ كَوْنِهِ تَعَالَى جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ وَحَاصِلًا فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ ، وَقَالُوا : لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ مِثْلًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ ، فَيَلْزَمُ حُصُولُ الْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ لَهُ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) وَيُمْكِنُ إِيرَادُ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ ، فَيُقَالُ : إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) فِي مَاهِيَّاتِ الذَّاتِ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ فِي الصِّفَاتِ شَيْءٌ ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَ يُوصَفُونَ بِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ قَادِرِينَ ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ يُوصَفُونَ بِكَوْنِهِمْ مَعْلُومِينَ مَذْكُورِينَ ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصَفُ بِذَلِكَ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُمَاثَلَةِ
[ ص: 130 ] الْمُسَاوَاةُ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ شَيْئًا مِنَ الذَّوَاتِ لَا يُسَاوِي اللَّهَ تَعَالَى فِي الذَّاتِيَّةِ ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى جِسْمًا ، لَكَانَ كَوْنُهُ جِسْمًا ذَاتًا لَا صِفَةً ، فَإِذَا كَانَ سَائِرُ الْأَجْسَامِ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي الْجِسْمِيَّةِ ، أَعْنِي فِي كَوْنِهَا مُتَحَيِّزَةً طَوِيلَةً عَرِيضَةً عَمِيقَةً ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ سَائِرُ الْأَجْسَامِ مُمَاثِلَةً لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَوْنِهِ ذَاتًا ، وَالنَّصُّ يَنْفِي ذَلِكَ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13114مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَوْرَدَ اسْتِدْلَالَ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ "بِالتَّوْحِيدِ" ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كِتَابُ الشِّرْكِ ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهَا ، وَأَنَا أَذْكُرُ حَاصِلَ كَلَامِهِ بَعْدَ حَذْفِ التَّطْوِيلَاتِ ، لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُضْطَرِبَ الْكَلَامِ ، قَلِيلَ الْفَهْمِ ، نَاقِصَ الْعَقْلِ ، فَقَالَ : " نَحْنُ نُثْبِتُ لِلَّهِ وَجْهًا ، وَنَقُولُ : إِنَّ لِوَجْهِ رَبِّنَا مِنَ النُّورِ وَالضِّيَاءِ وَالْبَهَاءِ مَا لَوْ كُشِفَ حِجَابُهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ شَيْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ ، وَوَجْهُ رَبِّنَا مَنْفِيٌّ عَنْهُ الْهَلَاكُ وَالْفَنَاءُ ، وَنَقُولُ : إِنَّ لِبَنِي آدَمَ وُجُوهًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْهَلَاكَ وَالْفَنَاءَ ، وَنَفَى عَنْهَا الْجَلَالَ وَالْإِكْرَامَ ، غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ بِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ وَالْبَهَاءِ ، وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ
nindex.php?page=treesubj&link=29714_28717_33677_29624إِثْبَاتِ الْوَجْهِ لِلَّهِ يَقْتَضِي التَّشْبِيهَ لَكَانَ مَنْ قَالَ : إِنَّ لِبَنِي آدَمَ وُجُوهًا وَلِلْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ وَالْكِلَابِ وُجُوهًا ، لَكَانَ قَدْ شَبَّهَ وُجُوهَ بَنِي آدَمَ بِوُجُوهِ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ وَالْكِلَابِ . ثُمَّ قَالَ : وَلَا شَكَّ أَنَّهُ اعْتِقَادُ
الْجَهْمِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ : وَجْهُكَ يُشْبِهُ وَجْهَ الْخَنَازِيرِ وَالْقِرَدَةِ لَغَضِبَ وَلَشَافَهَهُ بِالسُّوءِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لِلَّهِ إِثْبَاتُ التَّشْبِيهِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ " .
وَذَكَرَ فِي فَصْلٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ " أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى وُقُوعِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ مُشَبِّهًا ، فَكَذَا هَهُنَا " وَنَحْنُ نَعُدُّ الصُّوَرَ الَّتِي ذَكَرَهَا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ .
فَالْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وَقَالَ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=76&ayano=2فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [الْإِنْسَانِ : 2] .
الثَّانِي : قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=105وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) [التَّوْبَةِ : 105] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=79أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ) [النَّحْلِ : 79]
الثَّالِثُ : قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=37وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ) [هُودٍ : 37] (
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=48وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) [الطُّورِ : 48] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=83تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) [الْمَائِدَةِ : 83]
الرَّابِعُ : قَالَ لِإِبْلِيسَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=75مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) [ص : 75] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=64بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) [الْمَائِدَةِ : 64] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=51ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) [الْأَنْفَالِ : 51] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=10ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ) ، [الْحَجِّ : 10] (
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=10إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) ، [الْفَتْحِ : 10]
الْخَامِسُ : قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=5الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) [طه : 5] وَقَالَ فِي الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=13لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ) [الزُّخْرُفِ : 13] وَقَالَ فِي سَفِينَةِ
نُوحٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=44وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) [هُودٍ : 44]
السَّادِسُ : سَمَّى نَفْسَهُ عَزِيزًا ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=23الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ ) [الْحَشْرِ : 23] ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الِاسْمَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=78يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ) [يُوسُفَ : 78] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=88يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ) [يُوسُفَ : 88] .
السَّابِعُ : سَمَّى نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ ، وَسَمَّى بَعْضَ عَبِيدِهِ أَيْضًا بِالْمَلِكِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=54وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ) [يُوسُفَ : 54] وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْعَظِيمِ ، ثُمَّ أَوْقَعَ هَذَا الِاسْمَ عَلَى الْمَخْلُوقِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=129رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) [التَّوْبَةِ : 129]
nindex.php?page=treesubj&link=29622_29477_33677وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ ، وَأَوْقَعَ هَذَا الِاسْمَ عَلَى الْمَخْلُوقِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=35كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) [غَافِرٍ : 35] ثُمَّ طَوَّلَ فِي ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ، وَقَالَ : وَمَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَمْكَنَهُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا ، فَهَذَا مَا أَوْرَدَهُ هَذَا الرَّجُلُ فِي هَذَا الْكِتَابِ .
[ ص: 131 ]
وَأَقُولُ : هَذَا الْمِسْكِينُ الْجَاهِلُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ الْمِثْلَيْنِ ، وَعُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ حَقَّقُوا الْكَلَامَ فِي الْمِثْلَيْنِ ، ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَنَقُولُ : الْمِثْلَانِ هُمَا اللَّذَانِ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَاهِيَّتِهِ ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ مَسْبُوقٌ بِمُقَدِّمَةٍ أُخْرَى ، فَنَقُولُ : الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، إِمَّا تَمَامُ مَاهِيَّتِهِ ، وَإِمَّا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَاهِيَّتِهِ ، وَإِمَّا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ ، وَإِمَّا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ ذَاتِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهِ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْبَدِيهَةِ ، فَإِنَّا نَرَى الْحَبَّةَ مِنَ الْحُصْرُمِ كَانَتْ فِي غَايَةِ الْخُضْرَةِ وَالْحُمُوضَةِ ، ثُمَّ صَارَتْ فِي غَايَةِ السَّوَادِ وَالْحَلَاوَةِ ، فَالذَّاتُ بَاقِيَةٌ وَالصِّفَاتُ مُخْتَلِفَةٌ وَالذَّاتُ الْبَاقِيَةُ مُغَايِرَةٌ لِلصِّفَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَأَيْضًا نَرَى الشَّعْرَ قَدْ كَانَ فِي غَايَةِ السَّوَادِ ثُمَّ صَارَ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ ، فَالذَّاتُ بَاقِيَةٌ وَالصِّفَاتُ مُتَبَدِّلَةٌ ، وَالْبَاقِي غَيْرُ الْمُتَبَدِّلِ ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الذَّوَاتَ مُغَايِرَةٌ لِلصِّفَاتِ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ :
nindex.php?page=treesubj&link=29445_28724اخْتِلَافُ الصِّفَاتِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الذَّوَاتِ الْبَتَّةَ ، لِأَنَّا نَرَى الْجِسْمَ الْوَاحِدَ كَانَ سَاكِنًا ثُمَّ يَصِيرُ مُتَحَرِّكًا ، ثُمَّ يَسْكُنُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَالذَّوَاتُ بَاقِيَةٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ وَنَسَقٍ وَاحِدٍ ، وَالصِّفَاتُ مُتَعَاقِبَةٌ مُتَزَايِلَةٌ ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اخْتِلَافَ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الذَّوَاتِ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : الْأَجْسَامُ مِنْهَا تَأَلَّفَ وَجْهُ الْكَلْبِ وَالْقِرْدِ - مُسَاوِيَةٌ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي تَأَلَّفَ مِنْهَا وَجْهُ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الِاخْتِلَافُ بِسَبَبِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ ، وَهِيَ الْأَلْوَانُ وَالْأَشْكَالُ وَالْخُشُونَةُ وَالْمَلَاسَةُ وَحُصُولُ الشُّعُورِ فِيهِ وَعَدَمُ حُصُولِهَا ، فَالِاخْتِلَافُ إِنَّمَا وَقَعَ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ ، فَأَمَّا ذَوَاتُ الْأَجْسَامِ فَهِيَ مُتَمَاثِلَةٌ إِلَّا أَنَّ الْعَوَامَّ لَا يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّوَاتِ وَبَيْنَ الصِّفَاتِ ، فَلَا جَرَمَ يَقُولُونَ إِنَّ وَجْهَ الْإِنْسَانِ مُخَالِفٌ لِوَجْهِ الْحِمَارِ ، وَلَقَدْ صَدَقُوا ، فَإِنَّهُ حَصَلَتْ تِلْكَ بِسَبَبِ الشَّكْلِ وَاللَّوْنِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ ، فَأَمَّا الْأَجْسَامُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَجْسَامٌ فَهِيَ مُتَمَاثِلَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي أَوْرَدَهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْعَوَامِّ ، وَمَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ وَمَاهِيَّاتُهَا ، لَا الْأَعْرَاضُ وَالصِّفَاتُ الْقَائِمَةُ بِهَا ، بَقِيَ هَهُنَا أَنْ يُقَالَ : فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ كُلَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ ؟ فَنَقُولُ : لَنَا هَهُنَا مَقَامَانِ :
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : أَنْ نَقُولَ : هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَلَّمَةً أَوْ لَا تَكُونُ مُسَلَّمَةً ، فَإِنْ كَانَتْ مُسَلَّمَةً فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ ، وَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً ، فَنَقُولُ : فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إِلَهُ الْعَالَمِ هُوَ الشَّمْسُ أَوِ الْقَمَرُ أَوِ الْفَلَكُ أَوِ الْعَرْشُ أَوِ الْكُرْسِيُّ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْجِسْمُ مُخَالِفًا لِمَاهِيَّةِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ ، فَكَانَ هُوَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَاجِبَ الْوُجُودِ ، وَسَائِرُ الْأَجْسَامِ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ ، وَلَوْ أَنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُسْقِطُوا هَذَا الْإِلْزَامَ عَنِ الْمُجَسِّمَةِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ؟ فَإِنْ قَالُوا : هَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَفْلَاكَ كُلَّهَا مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ ، فَيُقَالُ : هَذَا مِنْ بَابِ الْحَمَاقَةِ الْمُفْرِطَةِ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقُرْآنِ وَصِحَّةَ نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ ، فَإِثْبَاتُ مَعْرِفَةِ الْإِلَهِ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ يَفْهَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ .
وَالْمَقَامُ الثَّانِي : أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ أَقَامُوا الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ فِي الذَّوَاتِ وَالْحَقِيقَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ جِسْمًا لَكَانَتْ ذَاتُهُ مُسَاوِيَةً لِذَوَاتِ الْأَجْسَامِ ، إِلَّا أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ ، أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ ذَاتَهُ إِذَا كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِذَوَاتِ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ عَلَيْهِ مَا يَصِحُّ عَلَى سَائِرِ الْأَجْسَامِ ، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا قَابِلًا لِلْعَدَمِ وَالْفَنَاءِ قَابِلًا لِلتَّفَرُّقِ وَالتَّمَزُّقِ .
وَأَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=11لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ ، وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّا لَا نَقُولُ بِأَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الِاسْتِوَاءُ فِي
[ ص: 132 ] الصِّفَةِ لَزِمَ حُصُولُ الِاسْتِوَاءِ فِي تَمَامِ الْحَقِيقَةِ ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ : لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ ، فَلَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ جِسْمًا لَكَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ مُسَاوِيًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ جِسْمٍ مِثْلًا لَهُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُصُولِ الْمُمَاثَلَةِ اعْتِبَارُ الْحَقَائِقِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ ، لَا اعْتِبَارُ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا ، فَظَهَرَ بِالتَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ حُجَّةَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ ، وَأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي أَوْرَدَهَا هَذَا الْإِنْسَانُ إِنَّمَا أَوْرَدَهَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَعِيدًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ ، فَجَرَى عَلَى مَنْهَجِ كَلِمَاتِ الْعَوَامِّ ، فَاغْتَرَّ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حُسْنَ الْخَاتِمَةِ .