الطرف الثالث : الأحكام المرتبة على اللعان .
قال رحمه الله الشافعي : درء الحد ، ونفي الولد ، والفرقة ، والتحريم المؤبد ، ووجوب الحد عليها ، وكلها تثبت بمجرد لعانه ولا يفتقر فيه إلى لعانها ولا إلى حكم الحاكم ، فإن حكم الحاكم به كان تنفيذا منه لا إيقاعا للفرقة . فلنتكلم في هذه المسائل : يتعلق باللعان خمسة أحكام
المسألة الأولى : اختلف المجتهدون في على أربعة أقوال : أحدها : قال وقوع الفرقة باللعان : لا أرى ملاعنة الزوج امرأته تقتضي شيئا يوجب أن يطلقها ، وثانيها : قال عثمان البتي أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا تقع الفرقة بفراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما . وثالثها : قال مالك والليث -رحمهم الله- إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم . ورابعها : قال وزفر -رحمه الله- إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته ، ولا تحل له أبدا التعنت أو لم تلتعن ، حجة الشافعي وجوه : عثمان البتي
أحدها : أن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة ، فوجب أن لا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة ; لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قوله ، وهو لا يوجب تحريما ، ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريما ، فإذا كان كاذبا والمرأة صادقة يثبت أنه لا دلالة فيه على التحريم .
وثانيها : لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة فكذا لو تلاعنا عند الحاكم .
وثالثها : أن اللعان قائم مقام الشهود في قذف الأجنبيات ، فكما أنه لا فائدة في إحضار الشهود هناك إلا إسقاط الحد ، فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد .
ورابعها : إذا أكذب الزوج نفسه في قذفه إياها ثم حد ، لم يوجب ذلك فرقة ، فكذا إذا لاعن ; لأن اللعان قائم مقام درء الحد ، قال : وأما تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين فكان ذلك في قصة العجلاني ، وكان قد طلقها ثلاثا بعد اللعان ، فلذلك فرق بينهما ، وأما قول ، وهو أن الحاكم يفرق بينهما فلا بد من بيان أمرين : أبي حنيفة
أحدهما : أنه يجب على الحاكم أن يفرق بينهما ، ودليله ما روى في قصة سهل بن سعد العجلاني [ ص: 148 ] مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا . والثاني : أن الفرقة لا تحصل إلا بحكم الحاكم ، واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : روي في قصة عويمر أنهما لما فرغا " عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثا " فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاستدلال بهذا الخبر من وجوه : قال
أحدها : أنه لو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله : " كذبت عليها إن أمسكتها " ; لأن إمساكها غير ممكن .
وثانيها : ما روي في هذا الخبر أنه طلقها ثلاث تطليقات فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتنفيذ الطلاق إنما يمكن لو لم تقع الفرقة بنفس اللعان .
وثالثها : ما قال في هذا الخبر مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا ، ولو كانت الفرقة واقعة باللعان استحال التفريق بعدها . سهل بن سعد
وثانيها : قال قول أبو بكر الرازي رحمه الله خلاف الآية ، لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج للاعنت المرأة وهي أجنبية وذلك خلاف الآية لأن الله تعالى إنما أوجب اللعان بين الزوجين . الشافعي
وثالثها : أن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم فوجب أن لا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم .
ورابعها : اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي بالبينة ، فلما لم يجز أن يستحق المدعي مدعاه إلا بحكم الحاكم وجب مثله في استحقاق المرأة نفسها .
وخامسها : أن اللعان لا إشعار فيه بالتحريم ; لأن أكثر ما فيه أنها زنت ، ولو قامت البينة على زناها أو هي أقرت بذلك فذاك لا يوجب التحريم ، فكذا اللعان ، وإذا لم يوجد فيها دلالة على التحريم وجب أن لا تقع الفرقة به ، فلا بد من إحداث التفريق ، إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم ، أما قول مالك فحجته أنهما لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا بل يفرق بينهما ، فدل على أن اللعان قد أوجب الفرقة ، أما قول وزفر رحمه الله فله دليلان : الشافعي
الأول : قوله تعالى : ( ويدرأ عنها العذاب أن تشهد ) الآية . فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها ، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج .
الثاني : أن لعان الزوج وحده مستقل بنفي الولد فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها ، ألا ترى أنها في لعانها تلحق الولد به ، ونحن ننفيه عنه ، فيعتبر نفي الزوج لا إلحاق المرأة ، ولهذا إذا أكذب الزوج نفسه ألحق به الولد ، وما دام يبقى مصرا على اللعان فالولد منفي عنه ، إذا ثبت أن لعانه مستقل بنفي الولد ، وجب أن يكون مستقلا بوقوع الفرقة ، لأن لقوله عليه السلام : " الفرقة لو لم تقع لم ينتف الولد " فما دام يبقى الفراش التحق به ، فلما انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أنه يزول الفراش عنه بمجرد لعانه ، وأما الأخبار التي استدل بها الولد للفراش رحمه الله فالمراد به أن النبي عليه السلام أخبر عن وقوع الفرقة وحكم بها وذلك لا ينافي أن يكون المؤثر في الفرقة شيئا آخر . أبو حنيفة
وأما الأقيسة التي ذكرها فمدارها على أن اللعان شهادة وليس الأمر كذلك بل هو يمين على ما بينا ، وأما قوله : اللعان لا إشعار فيه بوقوع الحرمة . قلنا بينته على نفي الولد مقبولة ونفي الولد يتضمن نفي حلية النكاح والله أعلم .
المسألة الثانية : قال مالك والشافعي وأبو يوسف والثوري وإسحاق والحسن : ، وهو قول المتلاعنان لا يجتمعان أبدا علي وعمر ، وقال وابن مسعود أبو حنيفة ومحمد إذا أكذب نفسه وحد زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد . حجة رحمه الله أمور : الشافعي
أحدها : ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان الإكذاب غاية لهذه الحرمة لردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغاية ، كما قال في المطلقة بالثلاث ( قوله عليه السلام للملاعن بعد اللعان " لا سبيل لك عليها " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) [ البقرة : 230 ] .
وثانيها : [ ص: 149 ] ما روي عن علي وعمر أنهم قالوا وابن مسعود ، وهذا قد روي أيضا مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . لا يجتمع المتلاعنان أبدا
وثالثها : ما روى عن الزهري في قصة سهل بن سعد العجلاني " مضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا " حجة رحمه الله قوله تعالى : ( أبي حنيفة وأحل لكم ما وراء ذلكم ) وقوله : ( فانكحوا ما طاب لكم ) .
المسألة الثالثة : اتفق أهل العلم على أن الولد قد ينفى عن الزوج باللعان ، وحكي عن بعض من شذ أنه للزوج ، ولا ينتفي نسبه باللعان ، واحتج بقوله عليه السلام : " " وهذا ضعيف ; لأن الأخبار الدالة على أن الولد للفراش كالمتواترة فلا يعارضها هذا الواحد . النسب ينتفي باللعان
المسألة الرابعة : قال رحمه الله : لو أتى أحدهما ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم ، وقال الشافعي -رحمه الله- أكثر كلمات اللعان تعمل عمل الكل إذا حكم به الحاكم ، والظاهر مع أبو حنيفة لأنه يدل على أنها لا تدرأ العذاب عن نفسها إلا بتمام ما ذكره الله تعالى ، ومن قال بخلاف ذلك فإنما يقوله بدليل منفصل . الشافعي