اعلم أنه تعالى وصف " يحيى " في هذه الآية بصفات تسع :
الصفة الأولى : بقوله : ( كونه مخاطبا من الله تعالى يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن قوله : ( يايحيى خذ الكتاب ) يدل على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك فحذف ذكره لدلالة الكلام عليه .
المسألة الثانية : الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل لقوله تعالى : ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ) ( الجاثية : 16 ) ويحتمل أن يكون كتابا خص الله به يحيى كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك ، والأول أولى لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ولا معهود ههنا إلا التوراة .
المسألة الثالثة : قوله : ( بقوة ) ليس المراد منه القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة ، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه .
الصفة الثانية : قوله تعالى : ( وآتيناه الحكم صبيا ) اعلم أن في الحكم أقوالا .
الأول : أنه الحكمة ومنه قول الشاعر :
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد
وهو الفهم في التوراة والفقه في الدين .
والثاني : وهو قول معمر أنه العقل روي أنه قال : ما للعب خلقنا .
والثالث : أنه النبوة فإن الله تعالى أحكم عقله في صباه وأوحى إليه وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى -عليهما السلام - وهما صبيان لا كما بعث موسى ومحمدا عليهما السلام ، وقد بلغا الأشد ، والأقرب حمله على النبوة لوجهين :
الأول : أن الله تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه ومنقبته ، ومعلوم أن فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية ولا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه اللفظة فوجب حملها عليها . النبوة أشرف صفات الإنسان
الثاني : أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره ولغيره على الإطلاق وذلك لا يكون إلا بالنبوة فإن قيل : كيف يعقل ؟ قلنا : هذا السائل ، إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع منه ، فإن منع منه فقد سد باب النبوات لأن بناء الأمر فيها على المعجزات ولا معنى لها إلا خرق العادات ، وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلا أشد من استبعاد انشقاق القمر وانفلاق البحر . حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا
الصفة الثالثة : قوله تعالى : ( وحنانا من لدنا ) اعلم أن الحنان أصله من الحنين وهو الارتياح والجزع للفراق كما يقال : حنين الناقة وهو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها ، ذكر الخليل ذلك ، وفي الحديث : ، فهذا هو الأصل ثم قيل : تحنن فلان على فلان إذا تعطف عليه ورحمه ، وقد اختلف الناس في "أنه عليه السلام كان يصلي إلى جذع في المسجد فلما اتخذ له المنبر وتحول إليه حنت تلك الخشبة حتى سمع حنينها" فأجازه بعضهم ، وجعله بمعنى الرءوف الرحيم ، ومنهم من أباه لما يرجع إليه أصل الكلمة قالوا : لم يصح الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى ، إذا عرفت هذا فنقول : الحنان هنا فيه وجهان : وصف الله بالحنان
[ ص: 164 ] أحدهما : أن يجعل صفة لله .
وثانيهما : أن يجعل صفة ليحيى أما إذا جعلناه صفة لله تعالى فنقول : التقدير وآتيناه الحكم حنانا أي : رحمة منا ، ثم ههنا احتمالات :
الأول : أن يكون الحنان من الله ليحيى ، المعنى : آتيناه الحكم صبيا ، ثم قال : ( وحنانا من لدنا ) أي إنما آتيناه الحكم صبيا حنانا من لدنا عليه أي : رحمة عليه وزكاة أي : وتزكية له وتشريفا له .
الثاني : أن يكون لزكريا عليه السلام فكأنه تعالى قال : إنما استجبنا الحنان من الله تعالى لزكريا دعوته بأن أعطيناه ولدا ثم آتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا عليه أي على زكريا فعلنا ذلك . ( وزكاة ) أي وتزكية له عن أن يصير مردود الدعاء .
والثالث : أن يكون الحنان من الله تعالى لأمة يحيى عليه السلام كأنه تعالى قال : ( وآتيناه الحكم صبيا وحنانا ) منا على أمته لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده ، أما إذا جعلناه صفة ليحيى عليه السلام ففيه وجوه :
الأول : آتيناه الحكم والحنان على عبادنا أي التعطف عليهم وحسن النظر على كافتهم فيما أوليه من الحكم عليهم كما وصف نبيه ، فقال : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) ( آل عمران : 159 ) وقال : ( حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) ( التوبة : 128 ) ثم أخبر تعالى أنه آتاه زكاة ، ومعناه أن لا تكون شفقته داعية له إلى الإخلال بالواجب لأن الرأفة واللين ربما أورثا ترك الواجب ألا ترى إلى قوله تعالى : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) ( النور : 2 ) وقال : ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ) ( التوبة : 123 ) وقال : ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) ( المائدة : 54 ) .
فالمعنى : إنما جعلنا له التعطف على عباد الله مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات ، ويحتمل آتيناه التعطف على الخلق والطهارة عن المعاصي فلم يعص ولم يهم بمعصية ، وفي الآية وجه آخر وهو المنقول عن : ( وحنانا من لدنا ) والمعنى عطاء بن أبي رباح ولا تعظيم أكثر من هذا والدليل عليه ما روي أنه مر آتيناه الحكم صبيا تعظيما إذ جعلناه نبيا وهو صبي ورقة بن نوفل على بلال وهو يعذب قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء ، ويقول : أحد أحد فقال : والذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا أي معظما .
الصفة الرابعة : قوله : ( وزكاة ) وفيه وجوه :
أحدها : أن المراد وآتيناه زكاة أي : عملا صالحا زكيا ، عن ابن عباس وقتادة والضحاك . وابن جريج
وثانيها : زكاة لمن قبل منه حتى يكونوا أزكياء ، عن الحسن .
وثالثها : زكيناه بحسن الثناء كما تزكي الشهود الإنسان .
ورابعها : صدقة تصدق الله بها على أبويه عن الكلبي .
وخامسها : بركة ونماء وهو الذي قال عيسى عليه الصلاة والسلام : ( وجعلني مباركا أين ما كنت ) ( مريم : 31 ) واعلم أن هذا يدل على أن ؛ لأنه جعل طهارته وزكاته من الله تعالى ، وحمله على الألطاف بعيد ؛ لأنه عدول عن الظاهر . فعل العبد خلق لله تعالى
الصفة الخامسة : قوله : ( وكان تقيا ) وقد عرفت معناه وبالجملة فإنه يتضمن غاية المدائح ؛ لأنه هو الذي يتقي نهي الله فيجتنبه ويتقي أمره فلا يهمله ، وأولى الناس بهذا الوصف من لم يعص الله ولا يهم بمعصية وكان يحيى عليه الصلاة والسلام كذلك ، فإن قيل ما معنى : ( وكان تقيا ) ؟
وهذا حين ابتداء تكليفه قلنا : إنما خاطب الله تعالى بذلك الرسول وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله عليه .
الصفة السادسة : قوله : ( وبرا بوالديه ) ؛ وذلك لأنه ، ولهذا السبب قال : ( لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى مثل تعظيم الوالدين وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) ( الإسراء : 23 ) .
الصفة السابعة : قوله : ( ولم يكن جبارا ) والمراد وذلك من صفات المؤمنين كقوله تعالى : ( وصفه بالتواضع ولين الجانب واخفض جناحك للمؤمنين ) ( الحجر : 88 ) وقال [ ص: 165 ] تعالى : ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) ( آل عمران : 159 ) ولأن رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به الترفع والتجبر ، ولذلك فإن إبليس لما تجبر وتمرد صار مبعدا عن رحمة الله تعالى وعن الدين وقيل : الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقا وهو من العظم والذهاب بنفسه عن أن يلزمه قضاء حق أحد ، وقال سفيان في قوله : ( جبارا عصيا ) إنه الذي يقبل على الغضب ، والدليل عليه قوله تعالى : ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض ) ( القصص : 19 ) وقيل : كل من عاقب على غضب نفسه من غير حق ؛ فهو جبار لقوله تعالى : ( وإذا بطشتم بطشتم جبارين ) ( الشعراء : 130 ) .
الصفة الثامنة : قوله : ( عصيا ) وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم .
الصفة التاسعة : قوله : ( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ) وفيه أقوال :
أحدها : قال : ( محمد بن جرير الطبري وسلام عليه ) أي : ( أمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم ويوم يموت ) أي : وأمان عليه من عذاب القبر : ( ويوم يبعث حيا ) أي ومن عذاب القيامة .
وثانيها : قال : أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد ؛ فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ، ويوم يموت ؛ فيرى قوما ما شاهدهم قط ، ويوم يبعث ؛ فيرى نفسه في محشر عظيم ؛ فأكرم الله سفيان بن عيينة يحيى عليه الصلاة والسلام فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة .
وثالثها : قال عبد الله بن نفطويه : ( وسلام عليه يوم ولد ) أي : أول ما يرى الدنيا ( ويوم يموت ) أي : أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة ( ويوم يبعث حيا ) أي : أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة . وإنما قال : ( حيا ) تنبيها على كونه من الشهداء لقوله تعالى : ( بل أحياء عند ربهم يرزقون ) ( آل عمران : 169 )
فروع :
الأول : هذا السلام يمكن أن يكون من الله تعالى وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين فدلالة شرفه وفضله لا تختلف لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى .
الثاني : ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء عليهم السلام كقوله : ( سلام على نوح في العالمين ) ( الصافات : 79 ) . ( سلام على إبراهيم ) ( الصافات : 109 ) ؛ لأنه قال ( يوم ولد ) وليس ذلك لسائر الأنبياء عليهم السلام .
الثالث : روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام : أنت أفضل مني لأن الله تعالى سلم عليك وأنا سلمت على نفسي ، وهذا ليس بقوي لأن عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله على يحيى لأن سلام عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمره الله به .
الرابع : السلام عليه يوم ولد لا بد وأن يكون تفضلا من الله تعالى ؛ لأنه لم يتقدم منه ما يكون ذلك جزاء له ، وأما السلام عليه يوم يموت ويوم يبعث في المحشر ، فقد يجوز أن يكون ثوابا كالمدح والتعظيم ، والله تعالى أعلم .