القول في فوائد هذه القصة :
الفائدة الأولى : تعليم وهي من جهات : آداب الدعاء
أحدها : قوله : ( نداء خفيا ) وهو يدل على أن ما هذا حاله ويؤكده قوله تعالى : ( أفضل الدعاء ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) ( الأعراف : 55 ) ولأن رفع الصوت مشعر بالقوة والجلادة ، وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار ، وعمدة الدعاء الانكسار والتبري عن حول النفس وقوتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه .
وثانيها : أن المستحب أن يذكر في مقدمة الدعاء عجز النفس وضعفها كما في قوله تعالى عنه : ( وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ) ثم يذكر كثرة نعم الله [ ص: 166 ] على ما في قوله : ( ولم أكن بدعائك رب شقيا ) .
وثالثها : أن يكون الدعاء لأجل شيء متعلق بالدين لا لمحض الدنيا كما قال : ( وإني خفت الموالي من ورائي ) .
ورابعها : أن يكون الدعاء بلفظ يا رب على ما في هذا الموضع .
الفائدة الثانية : ظهور زكريا ويحيى عليهما السلام أما درجات زكريا فأمور :
أحدها : نهاية تضرعه في نفسه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكلية .
وثانيها : إجابة الله تعالى دعاءه .
وثالثها : أن الله تعالى ناداه وبشره أو الملائكة أو حصل الأمران معا .
ورابعها : اعتقال لسانه عن الكلام دون التسبيح .
وخامسها : أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام طلب الآيات لقوله : رب اجعل لي آية .
الفائدة الثالثة : ردا على أهل الطبائع . كونه تعالى قادرا على خلق الولد وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة
الفائدة الرابعة : صحة الاستدلال في الدين لقوله تعالى : ( وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ) .
الفائدة الخامسة : أن المعدوم ليس بشيء ، والآية نص في ذلك ، فإن قيل : المراد ولم تك شيئا مذكورا كما في قوله تعالى : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) ( الإنسان : 1 ) قلنا : الإضمار خلاف الأصل ، وللخصم أن يقول : الآية تدل على أن الإنسان لم يكن شيئا ، ونحن نقول به ؛ لأن الإنسان عبارة عن جواهر متألفة قامت بها أعراض مخصوصة والجواهر المتألفة الموصوفة بالأعراض المخصوصة غير ثابتة في العدم إنما الثابت هو أعيان تلك الجواهر مفردة غير مركبة وهي ليست بإنسان فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب .
الفائدة السادسة : أن الله تعالى ذكر هذه القصة في سورة آل عمران وذكرها في هذا الموضع فلنعتبر حالها في الموضعين فنقول :
الأول : أنه تعالى بين في هذه السورة أنه دعا ربه ولم يبين الوقت وبينه في آل عمران بقوله : ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ) ( آل عمران : 37 ، 38 ) والمعنى أن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم عليها السلام طمع فيه في حق نفسه فدعا .
الثاني : وهو أن الله تعالى صرح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة لقوله : ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ) ( آل عمران : 39 ) وفي هذه السورة الأظهر أن المنادي بقوله : ( يازكريا إنا نبشرك ) هو الله تعالى وقد بينا أنه لا منافاة بين الأمرين .
الثالث : أنه قال في آل عمران : ( أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ) ( آل عمران : 40 ) فذكر أولا كبر نفسه ثم عقر المرأة وهو في هذه السورة قال : ( أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ) وجوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب .
الرابع : قال في آل عمران : ( وقد بلغني الكبر ) ( آل عمران : 40 ) وقال ههنا ( وقد بلغت من الكبر ) وجوابه أن ما بلغك فقد بلغته .
الخامس : قال في آل عمران : ( آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ) ( آل عمران : 41 ) وقال ههنا : ( ثلاث ليال سويا ) وجوابه : دلت الآيتان على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهن ، والله أعلم .
القصة الثانية : مريم وكيفية ولادة عيسى عليه السلام . اعلم أنه تعالى إنما قدم قصة قصة يحيى على قصة عيسى [ ص: 167 ] عليهما السلام لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد لا من الأب البتة وأحسن الطرق في التعليم والتفهيم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقيا إلى الأصعب فالأصعب .