قوله تعالى ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون هو يحيي ويميت وإليه ترجعون )
اعلم أن من الناس من قال : إن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى قال قبل هذه الآية ( ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ) فلا جرم قال في هذه الآية ليس للظالم شيء يفتدي به ، فإن كل الأشياء ملك الله تعالى وملكه
واعلم أن هذا التوجيه حسن ، أما الأحسن أن يقال إنا قد ذكرنا أن الناس على طبقات ، فمنهم من يكون انتفاعه بالإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات ، أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات ، وإنما تعويلهم على الدلائل البينة والبراهين القاطعة ، فلما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا : أحق هو ؟ أمر الرسول - عليه السلام - بأن يقول : ( إي وربي ) وهذا جار مجرى الإقناعيات ، فلما ذكر ذلك أتبعه بما هو البرهان القاطع على صحته ، وتقريره أن القول بالنبوة والقول بصحة المعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم ، وأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه ، فعبر عن هذا المعنى بقوله : ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ) ولم يذكر الدليل على صحة هذه القضية ، لأنه تعالى قد استقصى في تقرير هذه الدلائل فيما سبق من هذه السورة ، وهو قوله : ( إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض ) [ يونس : 6 ] وقوله : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ) [ يونس : 5 ] فلما تقدم ذكر هذه اكتفى بذكرها ، وذكر أن الدلائل القاهرة ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان قادرا على كل الممكنات ، عالما بكل المعلومات غنيا عن جميع الحاجات ، منزها عن النقائص والآفات ، فهو تعالى لكونه قادرا على جميع الممكنات يكون قادرا على إنزال العذاب على الأعداء في الدنيا وفي الآخرة ، ويكون قادرا على إيصال الرحمة إلى الأولياء في الدنيا وفي الآخرة ، ويكون قادرا على تأييد رسوله - عليه السلام - بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة ويكون قادرا على إعلاء شأن رسوله ، وإظهار دينه ، وتقوية شرعه ، ولما كان قادرا على كل ذلك فقد بطل الاستهزاء والتعجب ، ولما كان منزها عن النقائص والآفات ، كان منزها عن الخلف والكذب ، وكل ما وعد به فلا بد وأن يقع . هذا إذا قلنا : إنه تعالى لا يراعي مصالح العباد ، أما إذا قلنا : إنه تعالى يراعيها ، فنقول : الكذب إنما يصدر عن العاقل ، إما للعجز أو للجهل أو للحاجة ، ولما كان الحق سبحانه منزها عن الكل كان الكذب عليه محالا ، فلما أخبر عن نزول العذاب بهؤلاء الكفار ، وبحصول الحشر والنشر وجب القطع بوقوعه ، فثبت بهذا [ ص: 92 ] البيان أن قوله تعالى : ( كل ما في العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور فهو ملكه وملكه ألا إن لله ما في السماوات والأرض ) مقدمة توجب الجزم بصحة قوله : ( ألا إن وعد الله حق ) ثم قال : ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) والمراد أنهم غافلون عن هذه الدلائل ، مغرورون بظواهر الأمور ، فلا جرم بقوا محرومين عن هذه المعارف ، ثم إنه أكد هذه الدلائل فقال : ( هو يحيي ويميت وإليه ترجعون ) والمراد أنه لما قدر على الإحياء في المرة الأولى ، فإذا أماته وجب أن يبقى قادرا على إحيائه في المرة الثانية ، فظهر بما ذكرنا أنه تعالى أمر رسوله بأن يقول : ( إي وربي ) [ يونس : 53 ] ثم إنه تعالى أتبع ذلك الكلام بذكر هذه الدلائل القاهرة .
واعلم أن في قوله : ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ) دقيقة أخرى وهي كلمة " ألا " وذلك لأن هذه الكلمة إنما تذكر عند تنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين وأهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيقولون البستان للأمير ، والدار للوزير والغلام لزيد ، والجارية لعمرو فيضيفون كل شيء إلى مالك آخر ، والخلق لكونهم مستغرقين في نوم الجهل ورقدة الغفلة يظنون صحة تلك الإضافات فالحق نادى هؤلاء النائمين الغافلين بقوله : ( ألا إن لله ما في السماوات والأرض ) وذلك لأنه لما ثبت بالعقل أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته ، وثبت أن الممكن مستند إلى الواجب لذاته ، إما ابتداء أو بواسطة ، فثبت أن ما سواه ملكه وملكه ، وإذا كان كذلك ، فليس لغيره في الحقيقة ملك ، فلما كان أكثر الخلق غافلين عن معرفة هذا المعنى غير عالمين به ، لا جرم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يذكر هذا النداء ، لعل واحدا منهم يستيقظ من نوم الجهالة ورقدة الضلالة .