الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            وفي الآية سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وقال أيضا : " خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل " ، وقال تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ) [الزخرف : 33] فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية . ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا ، فكيف الجمع بينهما ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارة بقوله : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك ) [طه : 132] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : وهو الأقوى عندي أن يقال : إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم ، كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل ، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر ، كان الابتهاج والسرور أتم ؛ لأنه أمن من تغير مطلوبه ، وأمن من زوال محبوبه ، فأما من كان مشتغلا بحب غير الله ، كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله ، فكان عيشه منغصا وقلبه مضطربا ، ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته : ( فلنحيينه حياة طيبة ) [النحل : 97] .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : هل يدل قوله : ( إلى أجل مسمى ) على أن للعبد أجلين ، وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : لا . ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر ، لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين ، فثبت أن لكل إنسان أجلا واحدا فقط .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : لم سمى منافع الدنيا بالمتاع ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها ، ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى : ( إلى أجل مسمى ) فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية ، ثم لما بين تعالى ذلك قال : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) والمراد منه السعادات الأخروية ، وفيها لطائف وفوائد .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الأولى : أن قوله : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله ، والأمر كذلك ؛ وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله ، وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى ، فحينئذ يصير قلبه فصا لنقش الملكوت ، ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت ، إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية ، فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء ، وتوالت موجبات السعادات ، فهذا هو المراد من قوله : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 147 ] الفائدة الثانية : أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة ؛ وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا ، فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية ، فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية ، فلهذا السبب قال : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثالثة : أنه تعالى قال في منافع الدنيا : ( يمتعكم متاعا حسنا ) ، وقال في سعادات الآخرة : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ، وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه ، وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطائه وجوده . وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب ، فأكثر الناس عقولهم ضعيفة ، واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه ، فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة ، علموا أن ما سواه ممكن لذاته ، موجود بإيجاده ، فانقطع نظرهم عما سواه ، وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع ، والمعطي والمانع .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال : ( وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) ، والأمر كذلك ؛ لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى ، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ، والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها ، فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام ، وصار عاجزا عن الوصول إلى محبوبه ، فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء ، فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم ، وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية . ثم بين أنه لا بد من الرجوع إلى الله تعالى بقوله : ( إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( إلى الله مرجعكم ) فيه دقيقة ، وهي أن هذا اللفظ يفيد الحصر ، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره ، فيدل هذا على أنه لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو ، والأمر كذلك أيضا في هذه الحياة الدنيوية ، إلا أن أقواما اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب ، فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء ، وأما في دار الآخرة فهذا الحال الفاسد زائل أيضا ، فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله : ( إلى الله مرجعكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وهو على كل شيء قدير ) ، وأقول : إن هذا تهديد عظيم من بعض الوجوه ، وبشارة عظيمة من سائر الوجوه . أما إنه تهديد عظيم فلأن قوله تعالى : ( إلى الله مرجعكم ) يدل على أنه ليس مرجعنا إلا إليه ، وقوله : ( وهو على كل شيء قدير ) يدل على أنه قادر على جميع المقدورات ، لا دافع لقضائه ، ولا مانع لمشيئته . والرجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذنوب العظيمة مشكل ، وأما إنه بشارة عظيمة فلأن ذلك يدل على قدرة غالبة وجلالة عظيمة لهذا الحاكم ، وعلى ضعف تام وعجز عظيم لهذا العبد ، والملك القاهر العالي الغالب إذا رأى عاجزا مشرفا على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك ، ومنه المثل المشهور : ملكت فاسجح .

                                                                                                                                                                                                                                            يقول مصنف هذا الكتاب : قد أفنيت عمري في خدمة العلم والمطالعة للكتب ، ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور ، والكريم إذا قدر غفر ، وأسألك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين ومجيب دعوة المضطرين أن تفيض سجال رحمتك على ولدي وفلذة كبدي ، وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية