( كتاب النكاح ) :
الكلام في هذا الكتاب في الأصل في أربعة مواضع في بيان
nindex.php?page=treesubj&link=10790_10792_10791_10793صفة النكاح المشروع وفي بيان ركن النكاح وفي بيان شرائط الركن وفي بيان حكم النكاح أما الأول فنقول : لا خلاف أن النكاح فرض حالة التوقان ، حتى أن
nindex.php?page=treesubj&link=10792_10793_10791من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوج يأثم ، واختلف فيما إذا لم تتق نفسه إلى النساء على التفسير الذي ذكرنا ، قال نفاة القياس مثل
nindex.php?page=showalam&ids=15858داود بن علي الأصفهاني وغيره من أصحاب الظواهر : أنه فرض عين بمنزلة الصوم والصلاة وغيرهما من فروض الأعيان ، حتى أن من تركه مع القدرة على المهر والنفقة والوطء يأثم .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي إنه مباح كالبيع والشراء .
واختلف أصحابنا فيه ، قال بعضهم : إنه مندوب ومستحب .
وإليه ذهب من أصحابنا
nindex.php?page=showalam&ids=15071الكرخي .
وقال بعضهم : إنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، بمنزلة الجهاد وصلاة الجنازة .
وقال بعضهم : إنه واجب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا في كيفية الوجوب ، قال بعضهم : إنه واجب على سبيل الكفاية ، كرد السلام .
وقال بعضهم : إنه واجب عينا ، لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين ، كصدقة الفطر والأضحية ، والوتر احتج أصحاب الظواهر بظواهر النصوص من نحو قوله عز وجل {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3فانكحوا ما طاب لكم من النساء } وقوله عز وجل {
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=32وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } وقول النبي صلى الله عليه وسلم {
تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن } .
وقوله صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=71452تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة } أمر الله عز وجل بالنكاح مطلقا ، والأمر المطلق للفرضية والوجوب قطعا ، إلا أن يقوم الدليل بخلافه ، ولأن الامتناع من الزنا واجب ولا يتوصل إليه إلا بالنكاح ، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به يكون واجبا .
واحتج
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بقوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } أخبر عن إحلال النكاح ، والمحلل والمباح من الأسماء المترادفة ، ولأنه قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وأحل لكم } ولفظ لكم يستعمل في المباحات ، ولأن النكاح سبب يتوصل به إلى قضاء الشهوة فيكون مباحا كشراء الجارية للتسري بها ، وهذا لأن قضاء الشهوة إيصال النفع إلى نفسه ، وليس يجب على الإنسان إيصال النفع إلى نفسه بل : هو مباح في الأصل ، كالأكل والشرب ، وإذا كان مباحا لا يكون واجبا لما بينهما من التنافي والدليل على أن النكاح ليس بواجب قوله تعالى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=39وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين } وهذا خرج مخرج المدح
ليحيى عليه الصلاة والسلام بكونه حصورا ، والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة ولو كان واجبا لما استحق المدح بتركه ; لأن ترك الواجب لأن يذم عليه أولى من أن يمدح .
واحتج من قال من أصحابنا : إنه مندوب إليه ومستحب بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35770من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فليصم فإن الصوم له وجاء } أقام الصوم مقام النكاح ، والصوم ليس بواجب فدل أن النكاح ليس بواجب أيضا ، لأن غير الواجب لا يقوم مقام الواجب .
ولأن في الصحابة رضي الله عنهم من لم تكن له زوجة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم علم منه بذلك ولم ينكر عليه ، فدل أنه ليس بواجب .
ومن قال منهم : إنه
[ ص: 229 ] فرض أو واجب على سبيل الكفاية احتج بالأوامر الواردة في باب النكاح والأمر المطلق للفرضية والوجوب قطعا ، والنكاح لا يحتمل ذلك على طريق التعيين ; لأن كل واحد من آحاد الناس لو تركه لا يأثم ، فيحمل على الفرضية والوجوب على طريق الكفاية ، فأشبه الجهاد ، وصلاة الجنازة ، ورد السلام .
ومن قال منهم : إنه واجب عينا لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين يقول : صيغة الأمر المطلقة عن القرينة تحتمل الفرضية ، وتحتمل الندب ; لأن الأمر دعاء وطلب ، ومعنى الدعاء والطلب موجود في كل واحد منهما ، فيؤتى بالفعل لا محالة ، وهو تفسير وجوب العمل ، ويعتقد على الإبهام على أن ما أراد الله تعالى بالصيغة من الوجوب القطعي أو الندب فهو حق ; لأنه إن كان واجبا عند الله فخرج عن العهدة بالفعل ، فيأمن الضرر وإن كان مندوبا يحصل له الثواب ، فكان القول بالوجوب على هذا الوجه أخذا بالثقة ، والاحتياط ، واحترازا عن الضرر بالقدر الممكن ، وأنه واجب شرعا وعقلا ، وعلى هذا الأصل بنى أصحابنا من قال منهم : إن النكاح فرض أو واجب ; لأن الاشتغال به مع أداء الفرائض والسنن أولى من التخلي لنوافل العبادات مع ترك النكاح ، وهو قول أصحاب الظواهر لأن الاشتغال بالفرض والواجب كيف ما كان أولى من الاشتغال بالتطوع .
ومن قال منهم : إنه مندوب ، ومستحب ; فإنه يرجحه على النوافل من وجوه أخر أحدها : أنه سنة قال النبي صلى الله عليه وسلم {
nindex.php?page=hadith&LINKID=15745النكاح سنتي } والسنن مقدمة على النوافل بالإجماع .
ولأنه أوعد على ترك السنة بقوله {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24881فمن رغب عن سنتي فليس مني } ولا وعيد على ترك النوافل .
والثاني : أنه فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وواظب عليه أي : داوم وثبت عليه ، بحيث لم يخل عنه ، بل كان يزيد عليه حتى تزوج عددا مما أبيح له من النساء .
ولو كان التخلي للنوافل أفضل لما فعل ; لأن الظاهر أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يتركون الأفضل فيما له حد معلوم ; لأن ترك الأفضل فيما له حد معلوم عد زلة منهم ، وإذا ثبت أفضلية النكاح في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق الأمة ; لأن الأصل من الشرائع هو العموم ، والخصوص بدليل .
والثالث : أنه سبب يتوصل به إلى مقصود هو مفضل على النوافل ; لأنه سبب لصيانة النفس عن الفاحشة ، وسبب لصيانة نفسها عن الهلاك بالنفقة ، والسكنى ، واللباس ، لعجزها عن الكسب ، وسبب لحصول الولد الموحد .
وكل واحد من هذه المقاصد مفضل على النوافل ، فكذا السبب الموصل إليه كالجهاد والقضاء .
وعند
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي التخلي أولى .
وتخريج المسألة على أصله ظاهر ; لأن النوافل مندوب إليها ، فكانت مقدمة على المباح ، وما ذكره من دلائل الإباحة والحل فنحن نقول بموجبها : إن النكاح مباح ، وحلال في نفسه لكنه واجب لغيره ، أو مندوب ومستحب لغيره من حيث إنه صيانة للنفس من الزنا ونحو ذلك على ما بينا .
ويجوز أن يكون الفعل الواحد حلالا بجهة ، واجبا أو مندوبا إليه بجهة ; إذ لا تنافي عند اختلاف الجهتين .
وأما قوله عز وجل {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=39وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين } فاحتمل أن التخلي للنوافل كان أفضل من النكاح في شريعته ، ثم نسخ ذلك في شريعتنا بما ذكرنا من الدلائل - والله أعلم - .
( كِتَابُ النِّكَاحِ ) :
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ
nindex.php?page=treesubj&link=10790_10792_10791_10793صِفَةِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوعِ وَفِي بَيَانِ رُكْنِ النِّكَاحِ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِ النِّكَاحِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ حَالَةَ التَّوَقَانِ ، حَتَّى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=10792_10793_10791مَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهُنَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ يَأْثَمُ ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ إلَى النِّسَاءِ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ مِثْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=15858دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ : أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْوَطْءِ يَأْثَمُ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ إنَّهُ مُبَاحٌ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنْ أَصْحَابِنَا
nindex.php?page=showalam&ids=15071الْكَرْخِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ وَاجِبٌ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ ، كَرَدِّ السَّلَامِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا ، لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ ، وَالْوِتْرِ احْتَجَّ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=32وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=71452تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالنِّكَاحِ مُطْلَقًا ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا ، إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الزِّنَا وَاجِبٌ وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّكَاحِ ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ يَكُونُ وَاجِبًا .
وَاحْتَجَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } أَخْبَرَ عَنْ إحْلَالِ النِّكَاحِ ، وَالْمُحَلَّلُ وَالْمُبَاحُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وَأُحِلَّ لَكُمْ } وَلَفْظُ لَكُمْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ فَيَكُونُ مُبَاحًا كَشِرَاءِ الْجَارِيَةِ لِلتَّسَرِّي بِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ إيصَالُ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ بَلْ : هُوَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ ، كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ قَوْله تَعَالَى {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=39وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ } وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ
لِيَحْيَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِكَوْنِهِ حَصُورًا ، وَالْحَصُورُ الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ بِتَرْكِهِ ; لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ لَأَنْ يُذَمَّ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُمْدَحَ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُسْتَحَبٌّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35770مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ } أَقَامَ الصَّوْمَ مَقَامَ النِّكَاحِ ، وَالصَّوْمُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَدَلَّ أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَيْضًا ، لِأَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ .
وَلِأَنَّ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ مِنْهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ .
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّهُ
[ ص: 229 ] فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ احْتَجَّ بِالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ لَوْ تَرَكَهُ لَا يَأْثَمُ ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ ، فَأَشْبَهَ الْجِهَادَ ، وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ ، وَرَدَّ السَّلَامِ .
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ يَقُولُ : صِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقَةُ عَنْ الْقَرِينَةِ تَحْتَمِلُ الْفَرْضِيَّةَ ، وَتَحْتَمِلُ النَّدْبَ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ دُعَاءٌ وَطَلَبٌ ، وَمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَيُؤْتَى بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ ، وَيُعْتَقَدُ عَلَى الْإِبْهَامِ عَلَى أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّيغَةِ مِنْ الْوُجُوبِ الْقَطْعِيِّ أَوْ النَّدْبِ فَهُوَ حَقٌّ ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ اللَّهِ فَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْفِعْلِ ، فَيَأْمَنُ الضَّرَرَ وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ ، وَالِاحْتِيَاطِ ، وَاحْتِرَازًا عَنْ الضَّرَرِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَنَى أَصْحَابُنَا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ ; لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَوْلَى مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ مَعَ تَرْكِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَيْفَ مَا كَانَ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ .
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنَّهُ مَنْدُوبٌ ، وَمُسْتَحَبٌّ ; فَإِنَّهُ يُرَجِّحُهُ عَلَى النَّوَافِلِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ أَحَدُهَا : أَنَّهُ سُنَّةٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=15745النِّكَاحُ سُنَّتِي } وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=24881فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَلَا وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ أَيْ : دَاوَمَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ ، بِحَيْثُ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ ، بَلْ كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ .
وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي لِلنَّوَافِلِ أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ ; لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ عُدَّ زَلَّةً مِنْهُمْ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ مِنْ الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودٍ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ ; لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْفَاحِشَةِ ، وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنْ الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ ، وَالسُّكْنَى ، وَاللِّبَاسِ ، لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ ، فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إلَيْهِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ .
وَعِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ التَّخَلِّي أَوْلَى .
وَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَصْلِهِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ النَّوَافِلَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا ، فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمُبَاحِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِبَاحَةِ وَالْحِلِّ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهَا : إنَّ النِّكَاحَ مُبَاحٌ ، وَحَلَالٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ ، أَوْ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ حَلَالًا بِجِهَةٍ ، وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِجِهَةٍ ; إذْ لَا تَنَافِيَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=39وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ } فَاحْتَمَلَ أَنَّ التَّخَلِّيَ لِلنَّوَافِلِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ النِّكَاحِ فِي شَرِيعَتِهِ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - .