وقد وسمى كل طائفة باطلهم توحيدا . تقسمت الطوائف التوحيد
فأتباع إرسطو و و ابن سينا النصير الطوسي ، عندهم التوحيد : إثبات وجود مجرد عن الماهية والصفة ، بل هو وجود مطلق ، لا يعرض لشيء من الماهيات ، ولا يقوم به وصف ، ولا يتخصص بنعت ، بل صفاته كلها سلوب وإضافات ، فتوحيد هؤلاء : هو غاية الإلحاد والجحد والكفر ، وفروع هذا التوحيد : إنكار ذات الرب ، والقول بقدم الأفلاك ، وأن الله لا يبعث من في القبور ، وأن النبوة مكتسبة ، وأنها حرفة من الحرف ، كالولاية والسياسة ، وأن الله لا يعلم عدد الأفلاك ولا الكواكب ، ولا يعلم شيئا من الموجودات المعينة البتة ، وأنه لا يقدر على قلب شيء من أعيان العالم ولا شق الأفلاك ولا خرقها ، وأنه : لا حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي ، ولا جنة ولا نار ، فهذا توحيد هؤلاء .
وأما الاتحادية ، فالتوحيد عندهم : أن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه ، وأنه سبحانه هو عين وجود كل موجود ، وحقيقته وماهيته ، وأنه آية كل شيء ، وله فيه آية تدل على أنه عينه ، وهذا عند محققيهم من خطأ التعبير ، بل هو نفس الآية ، ونفس الدليل ، ونفس المستدل ، ونفس المستدل عليه ، فالتعدد : بوجود اعتبارات وهمية ، لا [ ص: 416 ] بالحقيقة والوجود ، فهو عندهم عين الناكح ، وعين المنكوح وعين الذابح ، وعين المذبوح ، وعين الآكل ، وعين المأكول ، وهذا عندهم : هو السر الذي رمزت إليه هوامس الدهور الأولية ، ورامت إفادته الهداية النبوية ، كما قاله محققهم وعارفهم ابن سبعين .
ومن فروع هذا التوحيد : أن فرعون وقومه مؤمنون كاملو الإيمان ، عارفون بالله على الحقيقة ، ومن فروعه : أن عباد الأصنام على الحق والصواب ، وأنهم إنما عبدوا عين الله سبحانه لا غيره ، ومن فروعه : أن الحق أن لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية ، ولا فرق بين الماء والخمر ، والزنا والنكاح ، الكل في عين واحدة ، بل هو العين الواحدة ، وإنما المحجوبون عن هذا السر قالوا : هذا حرام وهذا حلال ، نعم هو حرام عليكم ؛ لأنكم في حجاب عن حقيقة هذا التوحيد ، ومن فروعه : أن الأنبياء ضيقوا الطريق على الناس ، وبعدوا عليهم المقصود ، والأمر وراء ما جاءوا به ، ودعوا إليه .
وأما الجهمية ، فالتوحيد عندهم : إنكار علو الله على خلقه بذاته ، واستوائه على عرشه ، وإنكار سمعه وبصره ، وقوته وحياته ، وكلامه وصفاته وأفعاله ومحبته ، ومحبة العباد له ، فالتوحيد عندهم : هو المبالغة في إنكار التوحيد الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه .
وأما القدرية ، فالتوحيد عندهم : هو إنكار قدر الله ، وعموم مشيئته للكائنات ، وقدرته عليها ، ومتأخروهم ضموا إلى ذلك : توحيد الجهمية ، فصار حقيقة التوحيد عندهم : إنكار القدر ، وإنكار حقائق الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وربما سموا إنكار القدر ، والكفر بقضاء الرب وقدره : عدلا ، وقالوا : نحن أهل العدل والتوحيد .
[ ص: 417 ] وأما الجبرية ، فالتوحيد عندهم : هو تفرد الرب تعالى بالخلق والفعل ، وأن العباد غير فاعلين على الحقيقة ، ولا محدثين لأفعالهم ، ولا قادرين عليها ، وأن الرب تعالى لم يفعل لحكمة ، ولا غاية تطلب بالفعل ، وليس في المخلوقات قوى وطبائع وغرائز وأسباب ، بل ما تم إلا مشيئة محضة ترجح مثلا على مثل بغير مرجح ولا حكمة ولا سبب البتة .
وأما صاحب المنازل - ومن سلك سبيله - فالتوحيد عندهم : نوعان ، أحدهما غير موجود ولا ممكن ، وهو توحيد العبد ربه ، فعندهم :
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
والثاني : توحيد صحيح ، وهو توحيد الرب لنفسه ، وكل من ينعته سواه فهو ملحد ، فهذا توحيد الطوائف ، ومن الناس إلا أولئك ؟ والله سبحانه أعلم .