الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قوله : " والجمع : غاية مقامات السالكين ، وهو طرف بحر التوحيد " .

وجه ذلك : أن السالك ما دام في سلوكه فهو في تفرقة الاستدلال ، وطلب الشواهد ، فإذا وصل إلى مقام المعرفة ، وصار همه هما واحدا - لله ، وفي الله ، وبالله - ينزل في منزلة الجمع ويشمر لركوب بحر التوحيد الذي يتلاشى فيه كل ما [ ص: 402 ] سوى الواحد القهار ، فالجمع عنده : نهاية سفر السالكين إلى الله .

وهذا موضع غير مسلم له على إطلاقه ، وإنما غاية مقام السالكين : التوبة التي هي بدايات منازلهم .

ولعل سمعك ينفر من هذا غاية النفور ، وتقول : هذا كلام من لم يعرف شيئا من طريق القوم ، ولا نزل في منازل الطريق ، ولعمر الله إن كثيرا من الناس ليوافقك على هذا ، ويقول : أين كنا ؟ وأين صرنا ؟ نحن قد قطعنا منزلة التوبة وبيننا وبينها مائة مقام ، فنرجع من مائة مقام إليها ، ونجعلها غاية مقام السالكين ؟

فاسمع الآن وعه ، ولا تعجل بالإنكار ، ولا تبادر بالرد ، وافتح ذهنك لمعرفة نفسك ، وحقوق ربك ، وما ينبغي له منك ، وما له من الحق عليك ، ثم انسب أعمالك وأحوالك وتلك المنازل التي نزلتها والمقامات التي قمت فيها - لله وبالله - إلى عظيم جلاله ، وما يستحقه وما هو له أهل ، فإن رأيتها وافية بذلك مكافئة له فلا حاجة حينئذ إلى التوبة ، والرجوع إليها رجوع عن المقامات العلية ، وانحطاط من علو إلى سفل ، ورجوع من غاية إلى بداية ، وما ذلك ببعيد من كثير من المنتسبين إلى هذا الشأن ، المغرورين بأحوالهم ومعارفهم وإشاراتهم ، وإن رأيت أن أضعاف أضعاف ما قمت به - من صدق وإخلاص ، وإنابة ، وتوكل ، وزهد وعبادة - لا يفي بأيسر حق له عليك ، ولا يكافئ نعمة من نعمه عندك ، وأن ما يستحقه - لجلالته وعظمته - أعظم وأجل وأكبر مما يقوم به الخلق .

فاعلم الآن : أن التوبة نهاية كل عارف ، وغاية كل سالك ، وكما أنها بداية فهي نهاية ، والحاجة إليها في النهاية أشد من الحاجة إليها في البداية ، بل هي في النهاية في محل الضرورة .

فاسمع الآن ما خاطب الله به رسوله في آخر الأمر عند النهاية ، وكيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته أشد ما كان استغفارا وأكثره ، قال الله تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وهذا أنزله الله [ ص: 403 ] سبحانه بعد غزوة تبوك ، وهي آخر الغزوات التي غزاها - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ، فجعل الله سبحانه التوبة عليهم شكرانا لما تقدم من تلك الأعمال ، وذلك الجهاد ، وقال تعالى في آخر ما أنزل على رسوله : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - ما صلى صلاة - بعد ما نزلت عليه هذه السورة - إلا قال فيها : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي وذلك في نهاية أمره صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا فهم منها علماء الصحابة - كعمر بن الخطاب ، و عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهم : أن أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أعلمه الله إياه ، فأمره سبحانه بالاستغفار في نهاية أحواله ، وآخر أمره ، على ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - مقاما وحالا ، وآخر ما سمع من كلامه عند قدومه على ربه : اللهم اغفر لي ، وألحقني بالرفيق الأعلى وكان - صلى الله عليه وسلم - يختم على كل عمل صالح بالاستغفار ، كالصوم ، والصلاة ، والحج ، والجهاد ، فإنه كان إذا فرغ منه ، وأشرف على المدينة ، قال : آيبون ، تائبون ، لربنا حامدون وشرع أن يختم المجلس بالاستغفار ، وإن كان [ ص: 404 ] مجلس خير وطاعة ، وشرع أن يختم العبد عمل يومه بالاستغفار ، فيقول عند النوم أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وأن ينام على سيد الاستغفار .

والعارف بالله وأسمائه وصفاته وحقوقه يعلم أن العبد أحوج ما يكون إلى التوبة في نهايته ، وأنه أحوج إلى التوبة من الفناء ، والاتصال ، وجمع الشواهد ، وجمع الوجود ، وجمع العين ، وكيف يكون ذلك أعلى مقامات السالكين ، وغاية مطلب المقربين ، ولم يأت له ذكر في القرآن ، ولا في السنة ، ولا يعرفه إلا النادر من الناس ، ولا يتصوره أكثرهم إلا بصعوبة ومشقة ، ولو سمعه أكثر الخلق لما فهموه ، ولا عرفوا المراد منه إلا بترجمة ؟ فأين في كتاب الله ، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، أو كلام الصحابة - الذين نسبة معارف من بعدهم إلى معارفهم كنسبة فضلهم ودينهم وجهادهم إليهم - ما يدل على ذلك ، أو يشير إليه ؟ فصار المتأخرون - أرباب هذه الاصطلاحات الحادثة بالألفاظ المجملة ، والمعاني المتشابهة - : أعرف بمقامات السالكين ومنازل السائرين ، وغاياتها من أعلم الخلق بالله بعد رسله ؟ ! هذا من أعظم الباطل .

وهؤلاء في باب الإرادة والطلب والسلوك نظير أرباب الكلام من المعتزلة [ ص: 405 ] والجهمية ومن سلك سبيلهم في باب العلم والخبر عن الله وأسمائه وصفاته ، فالطائفتان - بل وكثير من المصنفين في الفقه - من المتكلفين أشد التكلف ، وقد قال الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحابمحمد : أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، فاعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم ، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم .

فلا تجد هذا التكليف الشديد ، والتعقيد في الألفاظ والمعاني عند الصحابة أصلا .

وإنما يوجد عند من عدل عن طريقهم ، وإذا تأمله العارف وجده كلحم جمل غث ، على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقي ، ولا سمين فينتقل ، فيطول عليك الطريق ، ويوسع لك العبارة ، ويأتي بكل لفظ غريب ومعنى أغرب من اللفظ ، فإذا وصلت لم تجد معك حاصلا طائلا ، ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحنا ، فالمتكلمون في جعاجع الجواهر والأعراض والأكوان والألوان ، والجوهر الفرد ، والأحوال والحركة والسكون ، والوجود والماهية والانحياز ، والجهات والنسب والإضافات ، والغيرين والخلافين ، والضدين والنقيضين ، والتماثل والاختلاف ، والعرض هل يبقى زمانين ؟ وما هو الزمان والمكان ؟ ويموت أحدهم ولم يعرف الزمان والمكان ، ويعترف بأنه لم يعرف الوجود : هل هو ماهية الشيء ، أو زائد عليها ؟ ويعترف : أنه شاك في وجود الرب : هل هو وجود محض ، أو وجود مقارن للماهية ؟ ويقول : الحق عندي الوقف في هذه المسألة .

ويقول أفضلهم - عند نفسه - عند الموت : أخرج من الدنيا وما عرفت إلا مسألة واحدة ، وهي أن الممكن يفتقر إلى واجب ، ثم قال : الافتقار أمر عدمي ، فأموت ولم أعرف شيئا ، وهذا أكثر من أن يذكر ، كما قال بعض السلف : أكثر الناس شكا عند الموت : أرباب الكلام .

وآخرون أعظم تكلفا من هؤلاء ، وأبعد شيء عن العلم النافع ، وهم : أرباب [ ص: 406 ] الهيولي والصورة والأسطقصات ، والأركان والعلل الأربعة ، والجواهر العقلية ، والمفارقات ، والمجردات ، والمقولات العشر ، والكليات الخمس ، والمختلطات والموجهات ، والقضايا المسورات ، والقضايا المهملات ، فهم أعظم الطوائف تكلفا ، وأقلهم تحصيلا للعلم النافع والعمل الصالح .

وكذلك المتكلفون من أصحاب الإرادة والسلوك ، وأرباب الحال والمقام ، والوقت والمكان ، والبادي والباذه والوارد ، والخاطر والواقع والقادح واللامع ، والغيبة والحضور ، والمحق والحق ، والسكر ، واللوائح والطوالع ، والعطش والدهش ، والتلبيس ، والتمكين والتلوين ، والاسم والرسم ، والجمع وجمع الجمع ، وجمع الشواهد وجمع الوجود ، والأثر ، والكون ، والبون ، والاتصال والانفصال ، والمسامرة والمشاهدة ، والمعاينة ، والتجلي ، والتخلي ، وأنا بلا أنا ، وأنت بلا أنت ، ونحن بلا نحن ، وهو بلا هو ، وكل ذلك أدنى إشارة إلى تكلف هؤلاء الطوائف وتنطعهم ، وكذلك كثير من المنتسبين إلى الفقه لهم مثل هذا التكلف وأعظم منه .

فكل هؤلاء محجوبون بما لديهم ، موقوفون على ما عندهم ، خاضوا - بزعمهم - بحار العلم ، وما ابتلت أقدامهم ، وكدوا أفكارهم وأذهانهم وخواطرهم ، وما استنارت بالعلم الموروث عن الرسل قلوبهم وأفهامهم ، فرحين بما عندهم من العلوم راضين بما قيدوا به من الرسوم ، فهم في واد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم في واد ، والله يعلم أنا لم نتجاوز فيهم القول ، بل قصرنا فيما ينبغي لنا أن نقوله ، فذكرنا غيضا من فيض ، وقليلا من كثير .

وهؤلاء كلهم داخلون تحت الرأي ، الذي اتفق السلف على ذمه وذم أهله .

فهم أهل الرأي حقا ، الذين قال فيهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه : إياكم [ ص: 407 ] وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ، وقال أيضا : أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم أن يعوها ، وتفلتت عليهم أن يرووها ، فاشتغلوا عنها بالرأي وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه : أي أرض تقلني ؟ وأي سماء تظلني ؟ إن قلت في كتاب الله برأيي ، أو بما لا أعلم ، وقال عمر - رضي الله عنه : يا أيها الناس ، إن الرأي كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصيبا ؛ لأن الله عز وجل كان يريه ، وإنما هو منا الظن والتكلف ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما : من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ، ولم تمض به سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لم يدر ما هو على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل ، وقال عمر - رضي الله عنه : يا أيها الناس ، اتهموا رأيكم على الدين ، فقد رأيتني ، وإني لأرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيي ، أجتهد ، والله ما آلو ذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب ، فقالوا : تكتب باسمك اللهم ، فرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبيت ، فقال : يا عمر ، تراني قد رضيت وتأبى ؟ وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رويناه من طريق مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني سليمان بن عتيق عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون ، ألا هلك المتنطعون فإن لم تكن هذه الألفاظ والمعاني التي نجدها في كثير من كلام هؤلاء تنطعا فليس للتنطع حقيقة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية