الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثانية : شوق إلى الله عز وجل زرعه الحب الذي ينبت على حافات المنن فعلق قلبه بصفاته المقدسة فاشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وأعلام فضله . وهذا شوق تغشاه المبار ، وتخالجه المسار ، ويقاومه الاصطبار .

الشوق إلى الله لا ينافي الشوق إلى الجنة . فإن أطيب ما في الجنة : قربه تعالى ، ورؤيته ، وسماع كلامه ورضاه . نعم . الشوق إلى مجرد الأكل والشرب والحور العين في الجنة ناقص جدا ، بالنسبة إلى شوق المحبين إلى الله تعالى . بل لا نسبة له إليه ألبتة . وهذا الشوق درجتان .

إحداهما : شوق زرعه الحب الذي سببه الإحسان والمنة . وهو الذي قال فيه : ينبت على حافات المنن . فسببه مطالعة منة الله وإحسانه ونعمه .

وقد تقدم بيان ذلك في منزلة المحبة وتبين أن محبة الأسماء والصفات [ ص: 59 ] أكمل وأقوى من محبة الإحسان والآلاء .

وفي قوله " تنبت على حافات المنن " أي جوانبه : إشارة إلى عدم تمكنها وقوتها ، وأنها من نبات الحافات التي هي جوانب المنن . لا من نبات الأسماء والصفات .

وقوله " فعلق قلبه بصفاته المقدسة " يعني الصفات المختصة بالمنن والإحسان . كالبر والمنان ، والمحسن ، والجواد ، والمعطي ، والغفور ، ونحوها .

وقوله " المقدسة " يعني المطهرة المنزهة عن تأويل المحرفين وتشبيه الممثلين وتعطل المعطلين . وإنما قلنا : إن مراده هذه الصفات الخاصة لوجهين .

أحدهما : أن تعلق القلب بالصفات العامة : إنما يكون في الدرجة الثالثة .

الثاني : أنه جعل ثمرة هذا التعلق شوق العبد إلى معاينة لطائف كرم الرب ومننه وإحسانه وآيات بره . وهي علامات بره بالعبد وإحسانه إليه ، وكذلك ( أعلام فضله ) وهو ما يفضل عليه به ، ويفضله به على غيره .

قوله " وهذا شوق تغشاه المبار " يعني : أنه شوق معلول . ليس خالصا لذات المحبوب . بل لما ينال منه من المبار " فقد غشيته " أي أدركته المبار .

قوله " وتخالجه المسار " أي تجاذبه . فإن المخالجة هي المجاذبة . فإذا خالط هذا الشوق الفرح : كان ممزوجا بنوع من الحظ .

وقوله " ويقاومه الاصطبار " أي أن صاحبه يقوى على الصبر ، فيقاوم صبره شوقه ولا يغلبه ، بخلاف الشوق في الدرجة الثالثة .

التالي السابق


الخدمات العلمية