الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

والشوق أثر من آثار المحبة ، وحكم من أحكامها . فإنه سفر القلب إلى المحبوب في كل حال .

وقيل : هو اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب .

وقيل : هو احتراق الأحشاء . ومنها يتهيج ويتولد ، ويلهب القلوب ويقطع الأكباد .

والمحبة أعلى منه . لأن الشوق عنها يتولد ، وعلى قدرها يقوى ويضعف .

قال يحيى بن معاذ : علامة الشوق فطام الجوارح عن الشهوات .

وقال أبو عثمان : علامته حب الموت مع الراحة والعافية ، كحال يوسف لما ألقي في الجب لم يقل توفني ، ولما أدخل السجن لم يقل توفني ، ولما تم له الأمر والأمن والنعمة ، قال : " توفني مسلما " .

قال ابن خفيف : الشوق ارتياح القلوب بالوجد ، ومحبة اللقاء بالقرب .

وقيل : هو لهب ينشأ بين أثناء الحشا ، يسنح عن الفرقة . فإذا وقع اللقاء طفئ .

[ ص: 54 ] قلت : هذه مسألة نزاع بين المحبين . وهي : أن الشوق هل يزول باللقاء أم لا ؟

ولا يختلفون أن المحبة لا تزول باللقاء .

فمنهم من قال : يزول باللقاء . لأن الشوق هو سفر القلب إلى محبوبه . فإذا قدم عليه ، ووصل إليه ، صار مكان الشوق قرة عينه به . وهذه القرة تجامع المحبة ولا تنافيها .

قال هؤلاء : وإذا كان الغالب على القلب مشاهدة المحبوب ، لم يطرقه الشوق .

وقيل لبعضهم : هل تشتاق إليه ؟ فقال : لا . إنما الشوق إلى غائب ، وهو حاضر .

وقالت طائفة : بل يزيد الشوق بالقرب والوصول ، ولا يزول . لأنه كان قبل الوصول على الخبر والعلم ، وبعده : قد صار على العيان والشهود . ولهذا قيل :


وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيام

.

قال الجنيد : سمعت السري يقول : الشوق أجل مقام للعارف إذا تحقق فيه . وإذا تحقق في الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه ، وعلى هذا : فأهل الجنة دائما في شوق إلى الله ، مع قربهم منه ، ورؤيتهم له .

قالوا : ومن الدليل على أن الشوق يكون حال اللقاء أعظم : أنا نرى المحب يبكي عند لقاء محبوبه . وذلك البكاء إنما هو من شدة شوقه إليه ، ووجده به ، ولذلك يجد عند لقائه نوعا من الشوق لم يجده في حال غيبته عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية