فصل منزلة التذكر
ثم ينزل القلب منزل التذكر وهو قرين الإنابة ، قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=13وما يتذكر إلا من ينيب وقال
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=8تبصرة وذكرى لكل عبد منيب وهو من خواص أولي الألباب ،
[ ص: 440 ] كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=19إنما يتذكر أولو الألباب وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=269وما يذكر إلا أولو الألباب .
nindex.php?page=treesubj&link=29411والتذكر والتفكر منزلان يثمران أنواع المعارف ، وحقائق الإيمان والإحسان ، والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره ، وبتذكره على تفكره ، حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر ، وبالتفكر على التذكر ، ويناطقون القلوب حتى نطقت .
قال صاحب المنازل : التذكر فوق التفكر ، لأن التفكر طلب ، والتذكر وجود .
يريد أن التفكر التماس الغايات من مباديها ، كما قال : التفكر تلمس البصيرة لاستدراك البغية .
وأما قوله : التذكر وجود ، فلأنه يكون فيما قد حصل بالتفكر ، ثم غاب عنه بالنسيان ، فإذا تذكره وجده فظفر به .
والتذكر تفعل من الذكر ، وهو ضد النسيان ، وهو حضور صورة المذكور العلمية في القلب ، واختير له بناء التفعل لحصوله بعد مهلة وتدرج ، كالتبصر والتفهم والتعلم .
فمنزلة التذكر من التفكر منزلة حصول الشيء المطلوب بعد التفتيش عليه ، ولهذا كانت آيات الله المتلوة والمشهودة ذكرى ، كما قال في المتلوة
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=53ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب وقال عن القرآن
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=48وإنه لتذكرة للمتقين وقال في آياته المشهودة
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب .
[ ص: 441 ] فالتبصرة آلة البصر ، والتذكرة آلة الذكر ، وقرن بينهما وجعلهما لأهل الإنابة ، لأن العبد إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر ، فاستدل بها على ما هي آيات له ، فزال عنه الإعراض بالإنابة ، والعمى بالتبصرة ، والغفلة بالتذكرة ، لأن التبصرة توجب له حصول صورة المدلول في القلب بعد غفلته عنها ، فترتيب المنازل الثلاثة أحسن ترتيب ، ثم إن كلا منها يمد صاحبه ويقويه ويثمره .
وقال تعالى في آياته المشهودة
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=36وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
والناس ثلاثة : رجل قلبه ميت ، فذلك الذي لا قلب له ، فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه .
الثاني : رجل له قلب حي مستعد ، لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة إما لعدم ورودها ، أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها ، فهو غائب القلب ، ليس حاضرا ، فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه .
الثالث : رجل حي القلب مستعد ، تليت عليه الآيات ، فأصغى بسمعه ، وألقى السمع وأحضر قلبه ، ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه ، فهو شاهد القلب ، ملق السمع ، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة .
فالأول : بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر .
والثاني : بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه ، فكلاهما لا يراه .
والثالث : بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور ، وأتبعه بصره ، وقابله على توسط من البعد والقرب ، فهذا هو الذي يراه .
فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور .
فإن قيل : فما موقع " أو " من هذا النظم على ما قررت ؟
قيل : فيها سر لطيف ، ولسنا نقول : إنها بمعنى الواو ، كما يقوله ظاهرية النحاة .
[ ص: 442 ] فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد ، مليء باستخراج العبر ، واستنباط الحكم ، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار ، فإذا سمع الآيات كانت له نورا على نور ، وهؤلاء أكمل خلق الله ، وأعظمهم إيمانا وبصيرة ، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول مشاهد لهم ، لكن لم يشعروا بتفاصيله وأنواعه ، حتى قيل : إن مثل حال
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم ، كمثل رجلين دخلا دارا ، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته ، والآخر وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته ، لكن علم أن فيها أمورا عظيمة ، لم يدرك بصره تفاصيلها ، ثم خرجا ، فسأله عما رأى في الدار ؟ فجعل كلما أخبره بشيء صدقه ، لما عنده من شواهده ، وهذه أعلى درجات الصديقية ، ولا تستبعد أن يمن الله المنان على عبد بمثل هذا الإيمان ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=29703فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حسبان .
فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة ازداد بها نورا إلى نوره ، فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبه ولم يغب حصل له التذكر أيضا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=265فإن لم يصبها وابل فطل والوابل والطل في جميع الأعمال وآثارها وموجباتها . وأهل الجنة سابقون مقربون ، وأصحاب يمين ، وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما ، حتى إن شراب أحد النوعين الصرف يطيب به شراب النوع الآخر ويمزج به مزجا ، قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=6ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد فكل مؤمن يرى هذا ، ولكن رؤية أهل العلم له لون ، ورؤية غيرهم له لون آخر .
قال صاحب المنازل : أبنية التذكر ثلاثة : الانتفاع بالعظة ، والاستبصار بالعبرة ، والظفر بثمرة الفكرة .
nindex.php?page=treesubj&link=29411الانتفاع بالعظة : هو أن يقدح في القلب قادح الخوف والرجاء ، فيتحرك للعمل ، طلبا للخلاص من الخوف ، ورغبة في حصول المرجو .
والعظة هي الأمر والنهي ، المقرون بالترغيب والترهيب .
[ ص: 443 ] والعظة نوعان : عظة بالمسموع ، وعظة بالمشهود ، فالعظة بالمسموع الانتفاع بما يسمعه من الهدى والرشد ، والنصائح التي جاءت على لسان الرسل وما أوحي إليهم ، وكذلك الانتفاع بالعظة من كل ناصح ومرشد في مصالح الدين والدنيا .
والعظة بالمشهود الانتفاع بما يراه ويشهده في العالم من مواقع العبر ، وأحكام القدر ، ومجاريه ، وما يشاهده من آيات الله الدالة على صدق رسله .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=29411استبصار العبرة فهو زيادة البصيرة عما كانت عليه في منزل التفكر بقوة الاستحضار ، لأن التذكر يعتقل المعاني التي حصلت بالتفكر في مواقع الآيات والعبر ، فهو يظفر بها بالتفكر ، وتنصقل له وتنجلي بالتذكر ، فيقوى العزم على السير بحسب قوة الاستبصار ، لأنه يوجب تحديد النظر فيما يحرك المطلب إذ الطلب فرع الشعور ، فكلما قوي الشعور بالمحبوب اشتد سفر القلب إليه ، وكلما اشتغل الفكر به ازداد الشعور به والبصيرة فيه ، والتذكر له .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=29411الظفر بثمرة الفكرة فهذا موضع لطيف .
وللفكرة ثمرتان : حصول المطلوب تاما بحسب الإمكان ، والعمل بموجبه رعاية لحقه ، فإن القلب حال التفكر كان قد كل بأعماله في تحصيل المطلوب ، فلما حصلت له المعاني وتخمرت في القلب ، واستراح العقل عاد فتذكر ما كان حصله وطالعه ، فابتهج به وفرح به ، وصحح في هذا المنزل ما كان فاته في منزل التفكر ، لأنه قد أشرف عليه في مقام التذكر ، الذي هو أعلى منه ، فأخذ حينئذ في الثمرة المقصودة ، وهي العمل بموجبه مراعاة لحقه ، فإن العمل الصالح هو ثمرة العلم النافع ، الذي هو ثمرة التفكر .
وإذا أردت فهم هذا بمثال حسي . فطالب المال ما دام جادا في طلبه ، فهو في كلال وتعب ، حتى إذا ظفر به استراح من كد الطلب ، وقدم من سفر التجارة ، فطالع ما حصله وأبصره ، وصحح في هذا الحال ما عساه غلط فيه في حال اشتغاله بالطلب ، فإذا صح له وبردت غنيمته له أخذ في صرف المال في وجوه الانتفاع المطلوبة منه ، والله أعلم .
فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّذَكُّرِ
ثُمَّ يَنْزِلُ الْقَلْبُ مَنْزِلَ التَّذَكُّرِ وَهُوَ قَرِينُ الْإِنَابَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=13وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ وَقَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=8تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ أُولِي الْأَلْبَابِ ،
[ ص: 440 ] كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=19إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=269وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ .
nindex.php?page=treesubj&link=29411وَالتَّذَكُّرُ وَالتَّفَكُّرُ مَنْزِلَانِ يُثْمِرَانِ أَنْوَاعَ الْمَعَارِفِ ، وَحَقَائِقَ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ ، وَالْعَارِفُ لَا يَزَالُ يَعُودُ بِتَفَكُّرِهِ عَلَى تَذَكُّرِهِ ، وَبِتَذَكُّرِهِ عَلَى تَفَكُّرِهِ ، حَتَّى يُفْتَحَ قُفْلُ قَلْبِهِ بِإِذْنِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعُودُونَ بِالتَّذَكُّرِ عَلَى التَّفَكُّرِ ، وَبِالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ ، وَيُنَاطِقُونَ الْقُلُوبَ حَتَّى نَطَقَتْ .
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ : التَّذَكُّرُ فَوْقَ التَّفَكُّرِ ، لِأَنَّ التَّفَكُّرَ طَلَبٌ ، وَالتَّذَكُّرَ وُجُودٌ .
يُرِيدُ أَنَّ التَّفَكُّرَ الْتِمَاسُ الْغَايَاتِ مِنْ مَبَادِيهَا ، كَمَا قَالَ : التَّفَكُّرُ تَلَمُّسُ الْبَصِيرَةِ لِاسْتِدْرَاكِ الْبُغْيَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : التَّذَكُّرُ وُجُودٌ ، فَلِأَنَّهُ يَكُونُ فِيمَا قَدْ حَصَلَ بِالتَّفَكُّرِ ، ثُمَّ غَابَ عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ ، فَإِذَا تَذَكَّرَهُ وَجَدَهُ فَظَفِرَ بِهِ .
وَالتَّذَكُّرُ تَفَعُّلٌ مِنَ الذِّكْرِ ، وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ ، وَهُوَ حُضُورُ صُورَةِ الْمَذْكُورِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْقَلْبِ ، وَاخْتِيرَ لَهُ بِنَاءُ التَّفَعُّلِ لِحُصُولِهِ بَعْدَ مُهْلَةٍ وَتَدَرُّجٍ ، كَالتَّبَصُّرِ وَالتَّفَهُّمِ وَالتَّعَلُّمِ .
فَمَنْزِلَةُ التَّذَكُّرِ مِنَ التَّفَكُّرِ مَنْزِلَةُ حُصُولِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ التَّفْتِيشِ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا كَانَتْ آيَاتُ اللَّهِ الْمَتْلُوَّةُ وَالْمَشْهُودَةُ ذِكْرَى ، كَمَا قَالَ فِي الْمَتْلُوَّةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=53وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَقَالَ عَنِ الْقُرْآنِ
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=48وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَقَالَ فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ .
[ ص: 441 ] فَالتَّبْصِرَةُ آلَةُ الْبَصَرِ ، وَالتَّذْكِرَةُ آلَةُ الذِّكْرِ ، وَقَرَنَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَهُمَا لِأَهْلِ الْإِنَابَةِ ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَنَابَ إِلَى اللَّهِ أَبْصَرَ مَوَاقِعَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرَ ، فَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَا هِيَ آيَاتٌ لَهُ ، فَزَالَ عَنْهُ الْإِعْرَاضُ بِالْإِنَابَةِ ، وَالْعَمَى بِالتَّبْصِرَةِ ، وَالْغَفْلَةُ بِالتَّذْكِرَةِ ، لِأَنَّ التَّبْصِرَةَ تُوجِبُ لَهُ حُصُولَ صُورَةِ الْمَدْلُولِ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ غَفْلَتِهِ عَنْهَا ، فَتَرْتِيبُ الْمَنَازِلِ الثَّلَاثَةِ أَحْسَنُ تَرْتِيبٍ ، ثُمَّ إِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَمُدُّ صَاحِبَهُ وَيُقَوِّيهِ وَيُثَمِّرُهُ .
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=36وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ .
وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ قَلْبُهُ مَيِّتٌ ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا قَلْبَ لَهُ ، فَهَذَا لَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ذِكْرَى فِي حَقِّهِ .
الثَّانِي : رَجُلٌ لَهُ قَلْبٌ حَيٌّ مُسْتَعِدٌّ ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَمِعٍ لِلْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ الَّتِي يُخْبِرُ بِهَا اللَّهُ عَنِ الْآيَاتِ الْمَشْهُودَةِ إِمَّا لِعَدَمِ وُرُودِهَا ، أَوْ لِوُصُولِهَا إِلَيْهِ وَلَكِنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْهَا بِغَيْرِهَا ، فَهُوَ غَائِبُ الْقَلْبِ ، لَيْسَ حَاضِرًا ، فَهَذَا أَيْضًا لَا تَحْصُلُ لَهُ الذِّكْرَى مَعَ اسْتِعْدَادِهِ وَوُجُودِ قَلْبِهِ .
الثَّالِثُ : رَجُلٌ حَيُّ الْقَلْبِ مُسْتَعِدٌّ ، تُلِيَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ ، فَأَصْغَى بِسَمْعِهِ ، وَأَلْقَى السَّمْعَ وَأَحْضَرَ قَلْبَهُ ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ بِغَيْرِ فَهْمِ مَا يَسْمَعُهُ ، فَهُوَ شَاهِدُ الْقَلْبِ ، مُلْقٍ السَّمْعَ ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ وَالْمَشْهُودَةِ .
فَالْأَوَّلُ : بِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ .
وَالثَّانِي : بِمَنْزِلَةِ الْبَصِيرِ الطَّامِحِ بِبَصَرِهِ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ ، فَكِلَاهُمَا لَا يَرَاهُ .
وَالثَّالِثُ : بِمَنْزِلَةِ الْبَصِيرِ الَّذِي قَدْ حَدَّقَ إِلَى جِهَةِ الْمَنْظُورِ ، وَأَتْبَعَهُ بَصَرَهُ ، وَقَابَلَهُ عَلَى تَوَسُّطٍ مِنَ الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَرَاهُ .
فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ كَلَامَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَوْقِعُ " أَوْ " مِنْ هَذَا النَّظْمِ عَلَى مَا قَرَّرْتَ ؟
قِيلَ : فِيهَا سِرٌّ لَطِيفٌ ، وَلَسْنَا نَقُولُ : إِنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ ، كَمَا يَقُولُهُ ظَاهِرِيَّةُ النُّحَاةِ .
[ ص: 442 ] فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ لَهُ قَلْبٌ وَقَّادٌ ، مَلِيءٌ بِاسْتِخْرَاجِ الْعِبَرِ ، وَاسْتِنْبَاطِ الْحِكَمِ ، فَهَذَا قَلْبُهُ يُوقِعُهُ عَلَى التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ ، فَإِذَا سَمِعَ الْآيَاتِ كَانَتْ لَهُ نُورًا عَلَى نُورٍ ، وَهَؤُلَاءِ أَكْمَلُ خَلْقِ اللَّهِ ، وَأَعْظَمُهُمْ إِيمَانًا وَبَصِيرَةً ، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مُشَاهَدٌ لَهُمْ ، لَكِنْ لَمْ يَشْعُرُوا بِتَفَاصِيلِهِ وَأَنْوَاعِهِ ، حَتَّى قِيلَ : إِنَّ مَثَلَ حَالِ
nindex.php?page=showalam&ids=1الصِّدِّيقِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ دَخَلَا دَارًا ، فَرَأَى أَحَدُهُمَا تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا وَجُزْئِيَّاتِهِ ، وَالْآخَرُ وَقَعَتْ يَدُهُ عَلَى مَا فِي الدَّارِ وَلَمْ يَرَ تَفَاصِيلَهُ وَلَا جُزْئِيَّاتِهِ ، لَكِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عَظِيمَةً ، لَمْ يُدْرِكْ بَصَرُهُ تَفَاصِيلَهَا ، ثُمَّ خَرَجَا ، فَسَأَلَهُ عَمَّا رَأَى فِي الدَّارِ ؟ فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ صَدَّقَهُ ، لِمَا عِنْدَهُ مِنْ شَوَاهِدِهِ ، وَهَذِهِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّدِّيقِيَّةِ ، وَلَا تَسْتَبْعِدْ أَنْ يَمُنَّ اللَّهُ الْمَنَّانُ عَلَى عَبْدٍ بِمِثْلِ هَذَا الْإِيمَانِ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29703فَضْلَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَصْرٍ وَلَا حُسْبَانٍ .
فَصَاحِبُ هَذَا الْقَلْبِ إِذَا سَمِعَ الْآيَاتِ وَفِي قَلْبِهِ نُورٌ مِنَ الْبَصِيرَةِ ازْدَادَ بِهَا نُورًا إِلَى نُورِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ مِثْلُ هَذَا الْقَلْبِ فَأَلْقَى السَّمْعَ وَشَهِدَ قَلْبُهُ وَلَمْ يَغِبْ حَصَلَ لَهُ التَّذَكُّرُ أَيْضًا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=265فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَالْوَابِلُ وَالطَّلُّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ وَآثَارِهَا وَمُوجَبَاتِهَا . وَأَهْلُ الْجَنَّةِ سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ ، وَأَصْحَابُ يَمِينٍ ، وَبَيْنَهُمَا فِي دَرَجَاتِ التَّفْضِيلِ مَا بَيْنَهُمَا ، حَتَّى إِنَّ شَرَابَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الصِّرْفَ يَطِيبُ بِهِ شَرَابُ النَّوْعِ الْآخَرِ وَيُمْزَجُ بِهِ مَزْجًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=6وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَرَى هَذَا ، وَلَكِنَّ رُؤْيَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ لَوْنٌ ، وَرُؤْيَةَ غَيْرِهِمْ لَهُ لَوْنٌ آخَرُ .
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ : أَبْنِيَةُ التَّذَكُّرِ ثَلَاثَةٌ : الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ ، وَالِاسْتِبْصَارُ بِالْعِبْرَةِ ، وَالظَّفَرُ بِثَمَرَةِ الْفِكْرَةِ .
nindex.php?page=treesubj&link=29411الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ : هُوَ أَنْ يَقْدَحَ فِي الْقَلْبِ قَادِحُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ، فَيَتَحَرَّكَ لِلْعَمَلِ ، طَلَبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْخَوْفِ ، وَرَغْبَةً فِي حُصُولِ الْمَرْجُوِّ .
وَالْعِظَةُ هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ، الْمَقْرُونُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ .
[ ص: 443 ] وَالْعِظَةُ نَوْعَانِ : عِظَةٌ بِالْمَسْمُوعِ ، وَعِظَةٌ بِالْمَشْهُودِ ، فَالْعِظَةُ بِالْمَسْمُوعِ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِنَ الْهُدَى وَالرُّشْدِ ، وَالنَّصَائِحِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الرُّسُلِ وَمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِالْعِظَةِ مِنْ كُلِّ نَاصِحٍ وَمُرْشِدٍ فِي مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا .
وَالْعِظَةُ بِالْمَشْهُودِ الِانْتِفَاعُ بِمَا يَرَاهُ وَيَشْهَدُهُ فِي الْعَالَمِ مِنْ مَوَاقِعِ الْعِبَرِ ، وَأَحْكَامِ الْقَدَرِ ، وَمَجَارِيهِ ، وَمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29411اسْتِبْصَارُ الْعِبْرَةِ فَهُوَ زِيَادَةُ الْبَصِيرَةِ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِ التَّفَكُّرِ بِقُوَّةِ الِاسْتِحْضَارِ ، لِأَنَّ التَّذَكُّرَ يَعْتَقِلُ الْمَعَانِي الَّتِي حَصَلَتْ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَوَاقِعِ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ ، فَهُوَ يَظْفَرُ بِهَا بِالتَّفَكُّرِ ، وَتَنْصَقِلُ لَهُ وَتَنْجَلِي بِالتَّذَكُّرِ ، فَيَقْوَى الْعَزْمُ عَلَى السَّيْرِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الِاسْتِبْصَارِ ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَحْدِيدَ النَّظَرِ فِيمَا يُحَرِّكُ الْمَطْلَبَ إِذِ الطَّلَبُ فَرْعُ الشُّعُورِ ، فَكُلَّمَا قَوِيَ الشُّعُورُ بِالْمَحْبُوبِ اشْتَدَّ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ ، وَكُلَّمَا اشْتَغَلَ الْفِكْرُ بِهِ ازْدَادَ الشُّعُورُ بِهِ وَالْبَصِيرَةُ فِيهِ ، وَالتَّذَكُّرُ لَهُ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29411الظَّفَرُ بِثَمَرَةِ الْفِكْرَةِ فَهَذَا مَوْضِعٌ لَطِيفٌ .
وَلِلْفِكْرَةِ ثَمَرَتَانِ : حُصُولُ الْمَطْلُوبِ تَامًّا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَالْعَمَلُ بِمَوْجِبِهِ رِعَايَةً لِحَقِّهِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ حَالَ التَّفَكُّرِ كَانَ قَدْ كَلَّ بِأَعْمَالِهِ فِي تَحْصِيلِ الْمَطْلُوبِ ، فَلَمَّا حَصَلَتْ لَهُ الْمَعَانِي وَتَخَمَّرَتْ فِي الْقَلْبِ ، وَاسْتَرَاحَ الْعَقْلُ عَادَ فَتَذَكَّرَ مَا كَانَ حَصَّلَهُ وَطَالَعَهُ ، فَابْتَهَجَ بِهِ وَفَرِحَ بِهِ ، وَصَحَّحَ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ مَا كَانَ فَاتَهُ فِي مَنْزِلِ التَّفَكُّرِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِ فِي مَقَامِ التَّذَكُّرِ ، الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْهُ ، فَأَخَذَ حِينَئِذٍ فِي الثَّمَرَةِ الْمَقْصُودَةِ ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّهِ ، فَإِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ النَّافِعِ ، الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ التَّفَكُّرِ .
وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ هَذَا بِمِثَالٍ حِسِّيٍّ . فَطَالِبُ الْمَالِ مَا دَامَ جَادًّا فِي طَلَبِهِ ، فَهُوَ فِي كَلَالٍ وَتَعَبٍ ، حَتَّى إِذَا ظَفِرَ بِهِ اسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّ الطَّلَبِ ، وَقَدِمَ مِنْ سَفَرِ التِّجَارَةِ ، فَطَالَعَ مَا حَصَّلَهُ وَأَبْصَرَهُ ، وَصَحَّحَ فِي هَذَا الْحَالِ مَا عَسَاهُ غَلِطَ فِيهِ فِي حَالِ اشْتِغَالِهِ بِالطَّلَبِ ، فَإِذَا صَحَّ لَهُ وَبَرَدَتْ غَنِيمَتُهُ لَهُ أَخَذَ فِي صَرْفِ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .