الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
ولما أنهينا الكلام على الحساب بحسب ما يليق بهذا الكتاب ثنينا العطف على شرح الصحف والميزان المشار إلى ذلك في قوله ( ( و ) ) كذا وقوف الخلق لأخذ ( ( الصحف ) ) جمع صحيفة ، وهي الكتب كتبتها الملائكة ، وأحصوا ما فعله كل إنسان من سائر أعماله في الدنيا القولية والفعلية ، وقيل هي صحف تكتبها العباد في قبورها قال تعالى :

( وإذا الصحف نشرت ) قال الثعلبي :

أي التي فيها أعمال بني آدم نشرت للحساب ، وإنما يؤتى بالصحف إلزاما للعباد ، ورفعا للجدل والعناد .

وقال تعالى : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) قال العلماء :

معنى ( طائره ) عمله ، وقال مقاتل والكلبي : خيره وشره معه لا يفارقه ، وهو معنى الأول . وقال تعالى : ( وأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) وفي الآية الأخرى ( فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ) والفتيل هو القشر الذي في شق النواة ، وهذا يضرب مثلا للشيء الحقير .

وذكر مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بالفتيل الوسخ الذي يظهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته .

قال العلامة الشيخ مرعي :

وإنما خص القراءة بمن أوتي كتابه بيمينه دون من أوتيه بشماله لأن أهل الشمال إذا طالعوا [ ص: 181 ] كتابهم وجدوه مشتملا على المهلكات العظيمة ، والقبائح الكاملة فيتولى الخوف والدهش على قلوبهم ، ويثقل لسانهم ، ويعجزون عن القراءة الكاملة بخلاف أصحاب اليمين فإنهم إذا طالعوا صحف حسناتهم ، وجدوها على الكمال فيقرءون كتابهم على أحسن الأحوال وأتمها ، ثم لم يقنع أحد بقراءته حتى يقول لأهل المحشر :

هاؤم اقرءوا كتابيه - كما قال الفخر ، وغيره . وقال تعالى :

( وأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا ) .

والحاصل أن نشر الصحف وأخذها باليمين والشمال مما يجب الإيمان به ، وعقد القلب بأنه حق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع ، فقد أخرج العقيلي عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" الكتب كلها تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة يبعث الله ريحا فتطيرها بالأيمان والشمائل " ، أول خط فيها ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) " قال قتادة :

سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا ، وأخرج الديلمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا : " عنوان كتاب المؤمن يوم القيامة حسن ثناء الناس عليه " .

وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله .

" وأخرجه البيهقي من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه ، ولفظه : " وأما العرضة الثالثة فتطاير الكتب في الأيمان والشمائل " .

قال الحكيم الترمذي : الجدال للأعداء يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوا نجوا أو قامت حجتهم ، والمعاذير لله يعتذر إلى آدم وإلى أنبيائه ، ويقيم حجته عندهم على الأعداء ثم يبعث بهم إلى النار ، والعرضة الثالثة للمؤمنين ، وهو العرض الأكبر يخلو بهم فيعاتب من يريد عتابه في تلك الخلوات حتى يذوق وبال [ ص: 182 ] الحياء والخجل ثم يغفر لهم ويرضى عنهم .

وأخرج ابن المبارك عن أبي عثمان النهدي قال : إن المؤمن ليعطى كتابه في ستر من الله فيقرأ سيئاته فيتغير لونه ، ثم يقرأ حسناته فيرجع إليه لونه ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات ، فعند ذلك يقول هاؤم اقرءوا كتابيه .

وأخرج مكي في تفسيره عن أم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - قالت : يا رسول الله كيف يحاسب حسابا يسيرا ؟ قال : " يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ، ويقرئ الناس حسناته ثم يحل الصحيفة فيحول الله حسناته فيقرؤها الناس فيقولون : ما كان لهذا العبد من سيئة " فهذا تفسير قوله تعالى :

( وأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا ) أهله هم أهل الجنة كما في البهجة
.

وأخرج الترمذي وحسنه ، وابن حبان والبيهقي والبزار ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا في قوله تعالى :

( يوم ندعوا كل أناس بإمامهم ) قال يدعى الرجل فيعطى كتابه بيمينه ، ويمد له في جسمه ستين ذراعا ، ويبيض وجهه ، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فينطلق إلى أصحابه ، فيرونه من بعيد فيقولون : اللهم ائتنا بهذا ، وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم فيقول : أبشروا فإن لكل واحد منكم مثل هذا ، وأما الكافر فيسود وجهه ، ويمد في جسمه ستون ذراعا ، ويجعل على رأسه تاج من نار ، ويراه أصحابه فيقولون : اللهم إنا نعوذ بك من هذا ، اللهم لا تأتنا بهذا ، فيأتيهم فيقولون : اللهم اخزه ، فيقول أبعدكم الله ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا .

وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة ؟ قال : " أما عند ثلاث فلا ، عند الميزان حتى يعلم أيثقل أم يخف ، وعند تطاير الكتب فإما أن يعطى بيمينه أو شماله ، وحين يخرج عنق من النار " الحديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية