قال ولم يختلف المسلمون في أن أبو عبد الله : واتفق على القول بذلك أهل الفتوى من علماء [ ص: 992 ] أهل الإسلام ، فبهذه الحجج يسقط قضاء الفرائض عن من أسلم من أهل الكفر ، لا لأنها لم تكن بواجبة عليهم . النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من الكفار أسلم بقضاء شيء من الفرائض ،
فإن قال قائل ، فيقول : إن الفرائض على الكفار أن يأتوا بالصلاة ، وسائر الفرائض قبل أن يسلموا .
قيل له : هذا خطأ ، لأن هذا يوهم أن لهم أن يؤخروا الإسلام إلى أن يأتوا بالفرائض ، ولا يحل لأحد من أهل الإدراك والعقل أن يؤخر الإسلام كما قد عين ، ولكنا نقول : الفرض على الكفار أن يسلموا ، ويصلوا ، ويؤدوا الفرائض ، ويجتنبوا المحارم كلها ، ويقدموا على الإسلام قبل ذلك كله ، لأن الفرائض ، وجميع الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالإسلام ، فإنهم امتنعوا من الإسلام ، وأداء الفرائض ، وارتكبوا المحارم ، وماتوا على ذلك ، فهم عصاة في جميع ذلك معاقبون على ذلك كله .
وهذا كما نقول : الفرض على الجنب ، وغير المتوضئ أن يتطهر ، ويصلي ، ولو صلى الجنب قبل أن يتطهر لم تجزه صلاته ، لأن الصلاة لا تقبل إلا بطهارة ، كما أن الكافر لا تقبل منه الصلاة إلا بإسلام ، وطهارة ، فإن أخر الجنب الطهارة ، والصلاة جميعا حتى ذهب الوقت ، ثم مات مصرا على ذلك ، مات عاصيا في الأمرين جميعا ، مستوجبا للعقوبة على تركها جميعا . [ ص: 993 ]
وكذلك الكافر إذا أخر الإسلام والصلاة حتى ذهب وقتها ، ثم مات مصرا على ذلك .
ولا يجوز أن يقول : الفرض على الجنب أن يصلي قبل أن يغتسل كما لا يجوز أن يقول : الفرض على الكافر أن يصلي قبل أن يسلم ، لكنا نقول : على هذا أن يتطهر ، ويصلي ، وعلى الكافر أن يسلم ، ويصلي .
فإن قال قائل : فإنما قال الله تعالى : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) .
وقال عز وجل : ( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ) .
وقال جل وعلا : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) ، فأوجب الصلاة ، والصيام ، وسائر الفرائض على المؤمنين .
قيل له : ليس في إيجابه الصلاة على المؤمنين إسقاط لها عن الكفار ، والمنافقين ، ولكن الله عز وجل وضع أقدار الكفار عن أن يخاطبهم بإيجاب الفرائض عليهم باسم الكفر ، استصغارا لهم ، ووضعا لأقدارهم ، وخاطب المؤمنين باسم الإيمان ، وسائر الفرائض عليهم باسم الإيمان . [ ص: 994 ]
ودل على وجوب ذلك على الكفار بما أوعدهم على تضييعها من العذاب ، قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) .
كما قال عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) .
و ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) .
فلم يكن في مخاطبته المؤمنين بإيجاب الإيمان بالله ورسوله عليهم إسقاط الدعوة للكفار ، لأنه قد دل على إيجاب ذلك عليهم بما هو أدل على الوجوب من الأمر ، وهو تغليظ الوعيد عليهم ، بإيجاب تخليدهم النار لتركهم الإيمان ، وكفرهم بالله تعالى .
قال الله عز وجل : ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ) .
ولو ذهبنا نتلو الآيات التي أوعد الله تعالى فيها الكفار التخليد في النار ، وآيسهم من مغفرته ، ورحمته ، لكثر الكتاب ، وطال ، ولولا أن المسلمين لا اختلاف بينهم في ذلك لتكلفنا تلاوتها ، وقد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمرهم بالإيمان به تعالى ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم باسم الناس ، لا باسم [ ص: 995 ] الكفار ، فقال تعالى : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) إلى قوله تعالى : ( فآمنوا بالله ورسوله ) .
وقال عز وجل لأهل الكتاب منهم : ( يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) .
وفي التوراة الأمر بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والصيام ، وسائر الفرائض ، وتحريم المحارم .
وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) .
و ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) .
فلم يكن إيجابه التقوى على المؤمنين بمسقط ذلك عن الكفار ، بل قد أوجب ذلك عليهم باسم الناس .
وقال : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) .
وقال تعالى : ( واتقون يا أولي الألباب ) .
والتقوى منتظم لأداء الفرائض ، واجتناب المحارم كلها . [ ص: 996 ]
وقال عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) .
فلم يكن افتراضه طاعته على الذين آمنوا بمسقط طاعته عن الكفار .
فكذلك ليس في افتراضه الصلاة ، والصيام على المؤمنين دليل على إسقاطها عن الكفار .