الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنه لا نجاة إذا حصل الافتراق والخلاف في هذه الأمة إلا بالرجوع للقرآن والسنة الثابتة واتباع ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك لأن مرجع المؤمنين عند الخلاف هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {النساء:59}.
وقد روى الترمذي في جامعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي. والحديث حسنه الألباني، ولا بد من البعد عما يخالف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم من بدع ومحدثات، لما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما -واللفظ للبخاري - عن ابن عباس أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا، ثم قال: كما بدأنا أول خلق نعيده، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد.
ثم إنك قد صدقت فيما ذكرت من اختصاص النبوة بالرجال، وانقطاع الوحي من السماء بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الرسل ختموا بالرسول صلى الله عليه وسلم. فإن الذي تدل عليه النصوص الشرعية أن النبوة بمعناها الشرعي خاصة بالرجال، ومن هذه الأدلة قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ {يوسف: من الآية109}.....
قال الشوكاني في فتح القدير: وتدل الآية على أن الله لم يبعث نبيا من النساء ولا من الجن، وهذا يرد على من قال: إن في النساء أربع نبيات: حواء وآسية وأم موسى ومريم....
ومما يدل على أن الوحي قد انقطع بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يعد هناك مجال لادعائه أو لنسبته لأحد في كل زمان ومكان، ما روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها.
وفي صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه قال: إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة.
وقد استفاضت النصوص وتواطأت على أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأن رسالته خاتمة الرسالات، فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {الأحزاب:40}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون.
واما الوحي الذي حصل لأم موسى فهو الوحي بمعنى الإلهام، وهو يحصل للنساء وللحيوانات؛ كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ {القصص:7} وقال الله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {النحل:68-69}
وأما زعم أن لفاطمة مصحفا أو قرآنا سواء اتحدا أو تعددا فهو باطل، ويدل له أنه لا بد أن يتوفر في القرآن التواتر، وموافقة رسم الصحابة، ووجه من وجوه اللغة، كما نص على ذلك المحقق ابن الجزري وغيره من أهل العلم.
والتواتر في الاصطلاح: هو إخبار جمع، أو نقل جمع يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب طبقة بعد طبقة إلى أن يصل إلى المخبر به ليفيد العلم اليقيني كنقل القرآن العظيم. أفاده صاحب نشر البنود على مراقي السعود. فكيف بقرآن أو مصحف يروى عن آحاد مع أنه لم يثبت عنهم؟!
ويدل لبطلانه أيضا أنه لم ينقله أحد من الثقات المحدثين الذين يوثق بنقلهم وقد عرف عنهم التحري في النقل والتورع عن الكذب، ولاعرف نقله عن أحد من أصحاب السير والتاريخ المعروفين بالتساهل ورواية وتدوين كثير مما سمعوه من أخبار الصحابة، فقد نقلوا لنا أشعار فاطمة وأشعار وحكم علي رضي الله عنهما، فهل فاتهم أمر هذا المصحف، واطلع عليه المتأخرون في القرون المتأخرة؟!
وما يعزى لبعض الشيعة من القول في القرآن بالتحريف أنكره كثير منهم قديما وحديثا، وذكر كثير منهم أنه ليس عندهم إلا القرآن المعروف عند الأمة، وقد أطنب العلامة الألوسي في تفسيره (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) في بيان ضلال من زعم التحريف في القرآن، ونقل عن الطبرسي -وهو من علماء الشيعة- موافقته لأهل السنة في إنكار من زعم تحريفه أو نقصه فقال:
قال الطبرسي في مجمع البيان: أما الزيادة فيه -أي القرآن- فمجمع على بطلانها، وأما النقصان فقد روي عن قوم من أصحابنا وقوم من حشوية العامة، والصحيح خلافه وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات وذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإن الغاية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه؛ لأن القرآن مفجر النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته حروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟! وقال أيضا: إن العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزني، فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا من النحو ليس من الكتاب لعرف وميز أنه ملحوق وأنه ليس من أصل الكتاب، وكذا القول في كتاب المزني. ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء، وذكر أيضا أن القرآن كان على عهد رسول الله مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان، وأنه كان يعرض على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مثبور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته. انتهى
وراجع لزاما تفسير الألوسي للاطلاع على بحثه للموضوع ونقاشه له.
وما يقال في نفي وجود مصحف أو قرآن خاص بآل البيت يقال مثله في نفي وجود علم شرعي مأخوذ من السنة يختصون به عن العلماء الآخرين، فقد صح عن علي رضي الله عنه أنه قيل له: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما خصنا بشيء لم يعم به الناس كافة؛ إلا ما كان في قراب سيفي هذا، فأخرج صحيفة مكتوب فيها: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا. رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني والأرناؤوط. وفي رواية لمسلم أنه قال له رجل: ما كان النبي يسر إليك؟ فغضب وقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلي شيئا يكتمه الناس غير أنه حدثني بكلمات أربع، فقال: ما هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: لعن الله من لعن والده، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من غير منار الأرض.
وهذا صريح من علي أنه لم يخصه ولا أهله بشيء، وحتى هذه الصحيفة لم تكن خاصة بهم فلذا أبرزها علي للناس وعلمهم ما فيها.
هذا، ونوصيك بالحرص على نشر الحق وتعليمه للناس، واحرص على ربطهم بالله، وحضهم على سؤال الله الهداية، ولا سيما في الصلاة، وليكثروا من قيام الليل ويحرصوا على الدعاء في استفتاح القيام بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح به دائما، كما في حديث عائشة أنه كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. أخرجه مسلم.
وراجع في خطورة زعم تحريف القرآن الفتوى رقم:6484، والقتوى رقم: 40418.
والله أعلم.