الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فما دمت لا تملك أي فكرة عن الموضوع، ولا تملك من العلم ما يمكنك من دفع شبهات أعداء الإسلام، فإنه لا يجوز لك أن تدخل إلى مواقعهم وتعرض دينك للفساد؛ وقد قال تعالى: .....وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ {البقرة:195}.
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله، واليأس من التوبة، ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض، التي في تركها هلاك للروح والدين. اهــ.
ودلت السنة على البعد عن مواطن الشبهات كما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ، أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ. رواه أبو داوود.
وأنت أيها السائل تُقحِمُ نفسك في مواقع الدجاجلة والكفرة، وتورد عليها الشبهات الهالكة، ثم تطلب العلاج منها، فاتق الله تعالى.
وأما الدليل على حفظ القرآن فقد قال الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [سورة الحجر: 9].
قال ابن جرير الطبري: قوله تعالى ذكره: ( إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ ) وهو القرآن ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال: وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل مَّا ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه، وحدوده، وفرائضه. اهــ .
وكذا قوله تعالى: { ... وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } سورة فصلت.
والمعنى: عَزِيزٌ أي: منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء، ولهذا قال: { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ } أي: لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن، لا بسرقة، ولا بإدخال ما ليس منه به، ولا بزيادة ولا نقص، فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه.
والقرآن الكريم نُقل إلينا بالتواتر ترويه الأجيال جيلا عن جيل، من عهد الصحابة على اختلاف بلدانهم وأقطارهم، يحفظه الصغير والكبير، والرجال والنساء، وتتفق مصاحفهم عليه مع اختلاف الأزمان والبلدان. ومثل هذا تقطع العقول بحفظه، ويحصل العلم الضروري به.
قال شيخ الإسلام: وَالْقُرْآنُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ لَمْ يَكُنْ الِاعْتِمَادُ فِي نَقْلِهِ عَلَى نُسَخِ الْمَصَاحِفِ، بَلْ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِفْظِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ لَهُ فِي صُدُورِهِم؛ وَلِهَذَا إِذَا وُجِدَ مُصْحَفٌ يُخَالِفُ حِفْظَ النَّاسِ أَصْلَحُوهُ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَاحِفِ غَلَطٌ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمَصَاحِفَ الَّتِي كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ قَدْ قَيَّدَ النَّاسُ صُورَةَ الْخَطِّ وَرَسْمَهُ، وَصَارَ ذَلِكَ أَيْضًا مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ، فَنَقَلُوا بِالتَّوَاتُرِ لَفْظَ الْقُرْآنِ حِفْظًا، وَنَقَلُوا رَسْمَ الْمَصَاحِفِ أَيْضًا بِالتَّوَاتُرِ.
وأما القول بأن الحروف أتت بعد الإسلام. فهذا من الكذب الفاضح لجهل قائله، فإن الحروف العربية قديمة قدم اللغة العربية نفسها والعرب وإن كانوا أميين لا يكتبون فإنه كان فيهم من يكتب - على قلتهم - وكان في الصحابة من يكتب القرآن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوا في التاريخ الإسلامي بكُتَّاب الوحي، وأول ما جمع المصحف وكتب كاملا في عهد أبي بكر- رضي الله تعالى عنه- ثم نسخه عثمان ووزعه على الأمصار.
والقول بأن الحركات كتبت بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو قول صحيح، فالتشكيل والنقط كتب بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا لا يمس بصدق المصحف؛ لأن الناس كتبوا المصاحف أولا بدون تشكيل ولا نقط؛ لأنهم كانوا عربا أقحاحا لا يلحنون فلما فشا اللحن كتبت المصاحف بالنقط والتشكيل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى: وَإِذَا كَتَبَ الْمُسْلِمُونَ مُصْحَفًا، فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ لَا يُنَقِّطُوهُ وَلَا يُشَكِّلُوهُ جَازَ ذَلِكَ؛ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَكْتُبُونَ الْمَصَاحِفَ مِنْ غَيْرِ تَنْقِيطٍ وَلَا تَشْكِيلٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ. وَهَكَذَا هِيَ الْمَصَاحِفُ الَّتِي بَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْأَمْصَارِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ. ثُمَّ فَشَا " اللَّحْنُ " فَنُقِّطَتْ الْمَصَاحِفُ وَشُكِّلَتْ بِالنُّقَطِ الْحُمْرِ، ثُمَّ شُكِّلَتْ بِمِثْلِ خَطِّ الْحُرُوفِ؛ فَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ. وَفِيهِ خِلَافٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ قِيلَ: يُكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ: وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَقِيلَ يُكْرَهُ النُّقَطُ دُونَ الشَّكْلِ لِبَيَانِ الْإِعْرَابِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ... اهــ. وقال أيضا: وَلَا رَيْبَ أَنَّ إعْرَابَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَمَامِهِ، وَيَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِإِعْرَابِهِ، وَالشَّكْلُ يُبَيِّنُ إعْرَابَهُ، كَمَا تُبَيِّنُ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ لِلْحَرْفِ الْمَنْطُوقِ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الشَّكْلُ الْمَكْتُوبُ لِلْإِعْرَابِ الْمَنْطُوقِ. اهــ.
ومن الكتب المفيدة في هذا الباب وننصح الأخ السائل بقراءته كتاب: " وثاقة نقل النص القرآني من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمته " لمؤلفه محمد حسن حسن جبل, وهو موجود على الشبكة العنكبوتية, رد فيه مصنفه الحملة التي شنها بعض المستشرقين للطعن في القرآن الكريم .
وانظر المزيد في الفتوى رقم: 6472 عن الرد على من زعم أن القرآن محرف، وكذا الفتوى رقم: 57231 والفتوى رقم: 131008.
والله تعالى أعلم.