السؤال
فضيلة المشايخ... أما بعد:
فقد قال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، وقال تعالى مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أنزلنا عليك الكتاب لتبين للناس ما نزل إليهم)، فكان ظاهر الخطاب الأول أن كل مسائل الشرع موجودة في القرآن وظاهر الخطاب الثاني أن الحديث مفسر للقرآن فكيف خصص العلماء الحديث بالحكمة والقرآن بالعلم مع كون الحكمة هي صفوة العلم، وهل الوحي الذي كان ينزل بالسنة إلا تفسير الكتاب فيكون الكتاب هو العلم والحكمة والحديث هو الحكمة فما يرى سماحتكم في هذا؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن تفسير القرآن يعتمد فيه على النقل عن السلف والدلالة اللغوية ولا يعترض على تفسير السلف إلا بدليل من الوحي أو لسان العرب أو أمر واقعي يصح الاعتراض به، واعلم أنه قد فسر الحكمة بالسنة في قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ {البقرة:129}، كثير من المفسرين منهم ابن كثير والبيضاوي والشوكاني والبغوي وغيرهم، ويؤيد كلامهم ذكر الكتاب في الآية والمراد به القرآن, فالأولى تفسير الحكمة بالسنة من تفسيرها بالقرآن فيحصل التكرار.
وهناك أقوال أخرى في الحكمة ذكرها شيخ المفسرين الإمام الطبري بعد تصديره بتفسير الحكمة بالسنة فقال في تأويل قوله تعالى ويعلمهم الكتاب والحكمة: ثم اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع. فقال بعضهم:هي السنة.
ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: والحكمة، أي السنة.
وقال بعضهم: الحكمة، هل المعرفة بالدين والفقه فيه.
ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه في الدين، والاتباع له.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: والحكمة، قال: الحكمة الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم، يعلمهم إياها. قال: والحكمة، العقل في الدين وقرأ: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. وقال لعيسى: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، قال: وقرأ ابن زيد: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها. قال: لم ينتفع بالآيات، حيث لم تكن معها حكمة. قال: أو الحكمة، شيء يجعله الله في القلب، ينور له به.
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها، وما دل عليه ذلك من نظائره، وهو عندي مأخوذ من الحكم الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل، بمنزلة الجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، يقال منه: إن فلاناً لحكيم بين الحكمة، يعني به: إنه لبين الإصابة في القول والفعل.
وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل قضائك وأحكامك التي تعلمه إياها. انتهى المراد منه، وراجع في كون القرآن لم يفصل فيه بيان كل شيء وإنما فصلت الأحكام في السنة في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 3879، 26320، 38113، 71379.
والله أعلم.