السؤال
لو قال الملحد: لعلنا في كون من سلسلة أكوان متتالية سببت بعضها البعض، ولا بداية لهذا التسلسل، فيقال له إن ذلك مستحيل، لأن التسلسل القديم مستحيل، لأنه يحتاج أن تفوت مدة لإنهائه منذ البداية حتى الحاضر، فيقول: بل لا توجد بداية ولا نهاية، وأننا في أحد هذه الأكوان في هذا التسلسل اللانهائي، وهناك نظرية علمية مقابلة للانفجار الكبير تؤكد هذا، ويبدو أن هذا مستمد من عقائد البوذيين أو الهندوس القائلين بقدم العالم، فيقولون إننا لا نحتاج إلى نقطة بداية، لأن قانونه هو أن أي نقطة في التسلسل اللانهائي القديم المستغني عن موجد وخالق، بل لا بداية لوجوده ولا منظم له، لأنه قديم، فهل هؤلاء الملاحدة متعمدون؟ وكيف نحتج عليهم بالفطرة، لأنهم سينكرونها؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فأما هل أولئك الكفرة متعمدون أم لا؟ فجوابه أنه يمكن أن يكونوا متعمدين مخالفة الحق، ويمكن أن يكونوا من المقلدين, ولا شك أن الفطرة السليمة والعقل السليم يأبيان ذلك القول ويردانه, قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ الْأَدِلَّةَ وَالْأَعْلَامَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ, وَجَعَلَ فِطَرَ عِبَادِهِ مُسْتَعِدَّةً لِإِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ ... فَكَمَا أَنَّ فِي الْأَبْدَانِ قُوَّةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْغِذَاءِ الْمُلَائِمِ وَالْمُنَافِي، فَفِي الْقُلُوبِ قُوَّةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَخَاصَّةُ الْعَقْلِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا أَنَّ خَاصَّةَ السَّمْعِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأَصْوَاتِ حَسَنُهَا وَقَبِيحُهَا، وَخَاصَّةُ الْبَصَرِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَرْئِيَّاتِ وَأَشْكَالِهَا وَأَلْوَانِهَا وَمَقَادِيرِهَا. اهـ.
وأول ما يُرد به عليهم مما يقبله العقل والفطرة أن الحقائق لا تثبت بلعل والاحتمالات، وإنما بالبراهين وقواطع الأدلة: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ {الأنعام:148}, قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {البقرة:111}.
وإذا لم يقيموا الأدلة والبراهين، فإن قولهم لا قيمة له عند العقلاء، وأما الاحتجاج عليهم بالفطرة مع إنكارهم لها: فجوابه أنه يتوجه الاحتجاج عليهم بأصحاب الفطر السليمة، وما أكثرهم! وبأحوال الاضطرار التي يجدونها من أنفسهم لا ينكرونها, فإن بني آدم جميعًا يشعرون بحاجتهم وفقرهم، وهذا الشعور أمر ضروري فطري، إذ الفقر وصف ذاتي لهم، فإذا ألمّت بالإنسان ـ حتى الملحد ـ مصيبة قد تؤدي به إلى الهلاك فزع إلى خالقه سبحانه, والتجأ إليه وحده, واستغنى به ولم يستغن عنه، بل تجده ينطق رغمًا عنه: "يا رب" وراجع في دلالة الفطرة والعقل على وجود الخالق تعالى، كتاب: العقيدة في الله ـ للأشقر, وكتاب معارج القبول للشيخ حافظ حكمي، وانظر الفتوى رقم: 213790.
وإذا كان الملحد يأبى الإقرار فلا مناص من الإعراض عنه، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى{ النجم: 29ـ 30}, وانظر للفائدة الفتويين رقم: 190011، ورقم: 135105.
والله أعلم.