الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السؤال

وجدت هذه المناظرة بين جعفر الصادق وأبي حنيفة رحمهم الله وأريد أن أستفسر عن صحتها، وإن كانت غير صحيحة فما الرد على الناس الذي يستدلون بالآيات الموجودة بجواز التوسل كهذه الآية الكريمة: (ولو أنّهم رضوا ما أتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله)، ذكروا أن أبا حنيفة أكل طعاماً مع الاِمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، فلما رفع الصادق (عليه السلام) يده من أكله قال: الحمد لله ربّ العالمين، اللهم هذا منك، ومن رسولك (صلى الله عليه وآله). فقال أبو حنيفة: يا أبا عبدالله ، أجعلت مع الله شريكاً؟ فقال له: ويلك، فإنّ الله تعالى يقول في كتابه: ( وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله)(1)، ويقول في موضع آخر: (ولو أنّهم رضوا ما أتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله)(2-3). فقال أبو حنيفة: والله، لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلاّ في هذا الوقت! فقال أبو عبدالله (عليه السلام): بلى، قد قرأتهما وسمعتهما، ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك: (أم على قلوب أقفالها)(4)، وقال: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)(5-6)، وكذلك هل المناظرة بينهما بخصوص الأخذ بالقياس متواترة وصحيحة حيث ورد في نهايتها قول الإمام أبي حنيفة أنه لن يقيس مرة أخرى؟ وجزاكم الله خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فهذه المناظرة لم نجدها إلا في كتب أهل البدع الذين يعرفون باستحلال الكذب، بل والتقرب إلى الله تعالى به -والعياذ بالله- وليس لها أصل، وكذلك المناظرة المشار إليها في القياس، وأما من ناحية موضوع المناظرة فباطل أيضاً، ونحن أهل السنة نعيذ جعفراً الصادق وأمثاله من فضلاء أهل العلم، أن يقول أحدهم على طعام يأكله: اللهم هذا منك ومن رسولك!! فإن هذا القول باطل قطعاً، بل الحق المحض الذي لا محيد عنه أنه من الله سبحانه وحده، ومن تأمل كلام النبي نفسه صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحال علم ذلك يقيناً، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر له ما تقدم من ذنبه. رواه الترمذي وابن ماجه. وحسنه الألباني.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا. رواه البخاري. وكان يقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: اللهم أطعمت وأسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت وأحييت فلك الحمد على ما أعطيت. رواه أحمد، وصححه الألباني والأرنؤوط.

وأما آيات سورة التوبة المذكورة في السؤال فليس فيها أية دلالة من قريب أو بعيد على هذا المعنى الباطل الذي احتوته هذه المناظرة، فقد كان الإيتاء والإغناء من الرسول صلى الله عليه وسلم حال حياته، وأما بعد لحوقه بالرفيق الأعلى فلا، ثم إن الآية الثانية وهي قوله تعالى: لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ {التوبة:59}، فيها نص واضح على أن الحسب الذي هو الكفاية وكذلك الرغبة التي هي الطلب، لا تكون إلا إلى الله وحده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: جعل الإيتاء لله والرسول لقوله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. فأمرهم بإرضاء الله ورسوله. وأما في الحسب فأمرهم أن يقولوا: حسبنا الله. لا يقولوا: حسبنا الله والرسول، ويقولوا: إنا إلى الله راغبون. لم يأمرهم أن يقولوا: إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ. فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده. انتهى.

وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان: دلالة الاستقراء في القرآن على أن الحسب والكفاية لله وحده، كقوله تعالى: لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ. فجعل الإيتاء لله ورسوله، كما قال: وما آتاكم الرسول فخذوه. وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعل الحسب مختصاً به، وقال: أليس الله بكاف عبده. فخص الكفاية التي هي الحسب به وحده، وتمدح تعالى بذلك في قوله: ومن يتوكل على الله فهو حسبه. وقال تعالى: وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده. انتهى.

ومن الظاهر الجلي أن مثل هذا لا يخفى على صغار طلبة العلم فضلاً عن أهله، ناهيك عن أئمته!!.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني