الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذا الترتيب الذي ذكره السائل الكريم للمرور على الصراط ليس بصحيح وأصل ذلك: أن أهل الكفر والشرك لا ينصب لهم صراط ـ أصلا ـ وإنما يلقون في النار ابتداء، وأما الصراط فينصب لأتباع الرسل من المؤمنين الكمل وأهل المعاصي ـ وفيهم المنافقون ـ وهؤلاء يجتمعون وتلقى عليهم الظلمة قبل الصراط، ثم يعطون من النور ما يناسب أحوالهم وبه يكون المرور على الصراط، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر.
رواه مسلم.
قال ابن أبي العز في الطحاوية: وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم.
وروى البيهقي بسنده عن مسروق عن عبد الله قال: يجمع الله الناس يوم القيامة ـ إلى أن قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره في إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه وإذا أطفأ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، ويقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رملاً على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يد وتعلق يد وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك، بعد أن أراناك، لقد أعطانا ما لم يعط أحد.هـ.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يعطى كل إنسان منهم ـ منافق أو مؤمن ـ نورا، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء، ثم كذلك.
الحديث.
ومما يدل على أن أهل الشرك لا يمرون على الصراط، قوله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن تتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى من كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله بر أو فاجر.
الحديث. متفق عليه.
قال ابن رجب في التخويف من النار: فهذا الحديث صريح في أن كل من أظهر عبادة شيء سوى الله كالمسيح وعزير من أهل الكتاب، فإنه يلحق بالمشركين في الوقوع في النار قبل نصب الصراط.هـ.
وقال قبل ذلك: الناس منقسمون إلى مؤمن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا، ومشرك يعبد مع الله غيره، فأما المشركون فإنهم لا يمرون على الصراط وإنما يقعون في النار قبل وضع الصراط.هـ.
وقال الدكتور عمر الأشقر في القيامة الكبرى: الذين يمرُّون على الصّراط هم المؤمنون دون المشركين، دلت الأحاديث التي سقناها على أن الأمم الكافرة تتبع ما كانت تعبد من آلهة باطلة، فتسير تلك الآلهة بالعابدين حتى تهوي بهم في النار، ثم يبقى بعد ذلك المؤمنون ـ وفيهم المنافقون وعصاة المؤمنين ـ وهؤلاء هم الذين ينصب لهم الصراط، ولم أر في كتب أهل العلم من تنبه إلى ما قررناه من أن الصراط إنما يكون للمؤمنين دون غيرهم من الكفرة المشركين والملحدين غير ابن رجب الحنبلي.هـ.
وأما سرعة مرور الناس على الصراط وحالهم في ذلك فيكون بحسب أعمالهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفا.
رواه مسلم.
وقال ـ أيضا ـ صلى الله عليه وسلم: يضرب جسر جهنم، فأكون أول من يجيز، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، فتخطف الناس بأعمالهم، منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل ثم ينجو.
متفق عليه.
وآخر من ينجو من هؤلاء المخردلين على الصراط هو المذكور في حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط فينكب مرة ويمشي مرة وتسفعه النار مرة، فإذا جاوز الصراط التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله ما لم يعط أحدا من الأولين والآخرين.
الحديث رواه أحمد.
ورواه مسلم بلفظ: آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك.
وأهل النفاق يطفأ نورهم قبل بدء المرور على الصراط ويحال بينهم وبين المؤمنين بسور، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * {الحديد:13، 14}.
ثم يمر أهل الإيمان بعد ذلك على قدر أعمالهم ونورهم.
والله أعلم.