الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبداية لا بد من التنبيه على خطأ هذا المسلك في فهم القرآن، والتعامل مع نصوص الوحي بصفة عامة! فما صحت نسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتعارض بعضه مع بعض، ولا يتعارض مع القرآن؛ إذ كل ذلك وحي من عند الله تعالى، كما قال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {النجم:3-4}، فلا يجوز التفريق بين القرآن والسنة، ونصب الخلاف بينهما، فكلٌّ من عند الله تعالى من حيث المصدر.
أما من حيث الدلالة، والإيضاح، فالسنة هي المبينة لمراد الله تعالى في كتابه، كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {النحل:44}، وقال سبحانه: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {النحل:64}، فالسنة هي الشارحة، والمبينة لمراد الله تعالى في كتابه، ولا يمكن أن يفهم القرآن بمنأى عن السنة، وراجع في ذلك الفتاوى: 313126، 113169، 190683.
ومما يؤكد هذا أن توهم التعارض لا يقتصر على ما بين القرآن والسنة، بل الذي يضرب النصوص بعضها ببعض سيتوهم مثل هذا التعارض بين آيات القرآن نفسه! ومن ذلك ما ذكره السائل من أن سَوق الكافرين إلى النار، والمتقين إلى الجنة، سيكون زمرا! فمن جعل ذلك نافيا لوجود الصراط الثابت بالسنة أو معارضا له، فيمكن أن يعارض أيضا بالقرآن نفسه، فقد قال الله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94]، وقال سبحانه: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [مريم: 80] وقال سبحانه: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 95].
قال الطبري في تفسيره: يقول : وجميع خلقه سوف يرد عليه يوم تقوم الساعة وحيدا لا ناصر له من الله، ولا دافع عنه .. اهـ.
وقال الثعلبي في تفسيره: وحيدا فريدا بعمله ليس معه شيء من الدنيا. اهـ.
وقال الرازي في تفسيره: كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد. اهـ.
فهل يقال: إن هذا يعارض سَوقَهم زمرا؟! اللهم لا، فإن يوم القيامة له أحوال مختلفة، وفيه مواقف متعددة، فيكون المرء في موقف وحيدا، وفي آخر مع من يشاكله في عمله، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 22 - 24].
قال الشنقيطي في أضواء البيان: قوله تعالى: {وأزواجهم} جمهور أهل العلم - منهم: عمر وابن عباس - على أن المراد به: أشباههم ونظراؤهم، فعابد الوثن مع عابد الوثن، والسارق مع السارق، والزاني مع الزاني، واليهودي مع اليهودي، والنصراني مع النصراني، وهكذا. وإطلاق الأزواج على الأصناف مشهور في القرآن، وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: {والذي خلق الأزواج كلها} ... فقوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم}، أي: اجمعوا الظالمين وأشباههم ونظراءهم، فاهدوهم إلى النار ليدخلها جميعهم. اهـ.
ومع هذا نقول: إن جمهور أهل العلم على أن المرور على الصراط لم يرد فقط في السنة، بل في القرآن أيضا، وعليه حملوا الورود في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 71، 72].
قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: اختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} ما هو؟ والأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط. اهـ.
وكذلك قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ...[الحديد: 12، 13] حمله أكثر المفسرين على حال الناس على الصراط، وانظر للفائدة الفتوى: 130628.
وعلى أية حال، فلا نعلم أحدا من أئمة العلم نفى وجود الصراط، وإنما تأول معناه طائفة من أهل البدع كبعض المعتزلة ومن تبعهم.
قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر: أجمعوا على أن الصراط جسر ممدود على جهنم يجوز عليه العباد بقدر أعمالهم، وأنهم يتفاوتون في السرعة والإبطاء على قدر ذلك. اهـ.
وتبعه ابن القطان في (الإقناع في مسائل الإجماع).
وقال النووي في شرح مسلم: مذهب أهل الحق إثباته، وقد أجمع السلف على إثباته، وهو جسر على متن جهنم يمر عليه الناس كلهم، فالمؤمنون ينجون على حسب حالهم أي منازلهم، والآخرون يسقطون فيها، أعاذنا الله الكريم منها. اهـ.
وقال السفاريني في «لوامع الأنوار البهية»: اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره من كونه جسرا ممدودا على متن جهنم أحد من السيف، وأدق من الشعر، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار المعتزلي، وكثير من أتباعه زعما منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة، وإنما المراد طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى: {سيهديهم ويصلح بالهم}، وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} ... وكل هذا باطل وخرافات؛ لوجود رد النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء أو الطيران في الهواء، والوقوف فيه. وقد أجاب -صلى الله عليه وسلم- عن سؤال حشر الكافر على وجهه بأن القدرة صالحة لذلك ... اهـ.
والله أعلم.