الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نصائح لعلاج الأزمة في العلاقة مع الله والوالدين

السؤال

أنا فتاة عمري 23 سنة، أريد النصح من حضرتكم لأنه تردى بي الحال وأغلقت علي كل الأبواب وأريد النصح والترشيد، أنا كنت فتاة متفوقة في دراستي وكنت أحصل على جائزة الطالبة المثالية كل سنة، وقد كنت قريبة جداً من الله وأتعبد وأقرأ في الدين، وتحجبت في سن صغيرة جداً، لكن عندما بلغت من العمر 17 عاما، لم تكن علاقتي بوالدتي جيدة لأني أنا كنت بنتها الوحيدة ولدي أخوان فقط فهي كانت تريدني دائما رمزا للكمال، وتريد أن لا يكون في أي خطأ في تصرفاتي وعلمي وديني وحتى شكلي، وهي كانت تخاف علي فلم يكن لي صديقات وحتى في المدرسة كنت دائما أجلس لوحدي في ركن ما ولا أختلط مع أحد، وقد كانت أمي دائما توبخني وتعايرني على أني أخيب آمالها، أحسست أن الدنيا أغلقت في وجهي ففعلت أشياء رهيبة أولها تدني مستواي الدراسي جداً ثم أصبحت أنغلق على نفسي وتراودني أفكار سوداوية في أذية نفسي أو أحد ما، إلي أن وصلت في يوم من الأيام أني أقدمت على الانتحار وابتلعت بعض الحبوب، وقد كنت وقتها لا أعي ماذا أفعل، كنت لا أستطيع التفاهم مع أحد، وفكرت أنه ليس لي فائدة في الوجود، وأني لن أرضي أحدا، ولكن الحمد لله قد نجوت من الموت، لكن مشكلتي الحقيقية من هنا بدأت، لقد أصبحت من ذلك اليوم أرتد إلى الخلف، وأصبحت أسوأ مما كنت عليه، لقد ارتكبت ذنوبا أشعر بالخجل أندم عليها وأصلي وأسجد وأطلب الغفران، ولكن لساني لا يقوى على قولها لأني أشعر بالخجل من نفسي، ثم أرجع وأفعلها ثانية أي أنه أصبحت عادة لدي، لقد أصبحت أبتعد شيئا فشيئا عن طاعة الله، أصبحت أكذب كثيراً، وأغضب والدي، وأتكلم معهما بقلة احترام، وأصبحت أبغضهما ولا أدري لماذا، ثم أصبحت وأنا أخجل من قول هذا أتفرج على الأفلام الإباحية والمواقع غير الأخلاقيه أتفرج عليها دون خجل أو حياء، أصبحت أشعر وكأن الحياء قد مات بداخلي إلى أن اصبحت شبه مدمنة عليها مع أني كلما أتفرج على هذه الأشياء أصاب بالقرف والمرض وأكره نفسي وأكتئب وأتمني الموت، وأرجع أفكر مرة أخرى في الانتحار وأندم وأصلي وأستغفر الله، ثم ما أن أواجه أي مشكلة أمامي أجد نفسي أهرب إلى هذه المواقع وأشعر بنفس الشيء.أنا إنسانة حائرة أتخبط في هذه الدنيا، ولا أعلم ماذا أريد أو ماذا أفعل، إني في نفس الدوامة منذ 6 سنوات إلي الآن ولم أتغير، ما أريده منكم أن تساعدوني كيف أتخلص من فكرة الانتحار التي أفكر فيها كل يوم وفي كل جدال أو نقاش أو مشكلة تحدث معي، كيف أعالج نفسي من إدمان الأفلام الإباحية وهذه المواقع، كيف أجد الطريق الذي أتفاهم به مع والدي إنهما الآن في سن كبيرة، وأنا لا أعرف كيف أتفاهم معهما وأتصرف معهما فكل ما نتحدث يؤول الأمر إلى مشاجرة كبيرة بيني وبينهم ومعايرة بحالتي، كيف أرجع علاقتي بربي وأحيي قلبي الذي مات من الذنوب والمعاصي، وأرجع الحياء إلى نفسي؟ شكراً.. وبارك الله فيكم.. وجزاكم الله خيراً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فاعلمي أيتها السائلة أن الله سبحانه بحكمته وفضله قد جعل الرضا والفرح والسرور والنشاط والأنس وقرة العين في طاعته وامتثال أوامره، قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً {النحل:97}، وقال سبحانه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {طه:123}، وجعل أضداد هذه من الهم والحزن والضيق واليأس والكآبة في التفريط في الطاعة وفعل المعصية، فما يجده الإنسان من هم وغم وضيق في الصدر ونكد في العيش فإن هذا غالباً ما يكون ثمرة من ثمرات المعاصي النكدة ونتاج من نتاجها المر، قال الله سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:124}، وقد قال سبحانه: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا {النساء:123}، فما يشعر به الإنسان من ضيق أو هم أو غم أو وحشة في قلبه أو تعسير في أمره فإن هذا غالباً ما يكون بسبب ذنوبه ومعاصيه.

يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الجواب الكافي: ومنها (عقوبات المعاصي): وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله جل وعلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام، وليس على القلب أمر من وحشة الذنب على الذنب فالله المستعان، ومنها الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، فإنه يجد وحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم وحرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشاً من نفسه، وقال بعض السلف إني لأعصي الله فارى ذلك في خلق دابتي وامراتي، ومنها تعسير أموره عليه فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرا، فمن عطل التقوى جعل الله له من أمره عسرا. انتهى بتصرف.

بل إن ما يبتلي به العبد من معاص وعادات قبيحة يكرهها ويبغضها ولا يستطيع الإقلاع عنها، فإن هذا غالباً ما يكون بسبب معصية أخرى، لأن من جزاء الحسنة حسنة مثلها ومن جزاء السيئة سيئة مثلها، وقد نص العلماء على أن ترك الواجبات من أسباب الابتلاء بالمعاصي وتسلط الشياطين، لقوله سبحانه: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {الزخرف:36}، وقوله جل وعلا: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ {المائدة:14}.

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ..

غن ترك الواجب سبب لفعل المحرم، قال الله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ. فهذا نص في أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سبباً لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين، وكان هذا دليلاً على أن ترك الواجب يكون سبباً لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء. انتهى.

فراجعي أيتها السائلة علاقتك بربك وجددي توبة لما كان منك من تقصير في فعل محظور أو ترك واجب، ثم عليك بالانطراح على باب الله سبحانه والابتهال إليه والإلحاح عليه في الدعاء أن يعافيك مما تجدينه في صدرك وأن يصرف عنك شرور نفسك ويكفيك كيد الشيطان ومكره، واسأليه سبحانه أن يصرف عنك مشاهدة هذه المناظر المحرمة فإنها أضر شيء على القلب، ولا يرجى للإنسان صلاح ولا هدى وهو مقيم على مشاهدة هذه المنكرات، وقد بينا خطرها على دين المرء وخلقه. وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 117920، 76130، 3605.

واصرفي عنك هذا التفكير الشيطاني في الانتحار وقتل النفس، فإن هذا من أعظم الذنوب وأقبحها بالإضافة إلى أنه لا يحقق لأصحابه ما يتوهمون فيه من الراحة فإنهم وإن هربوا به من شقاء الدنيا، فإنهم ينتقلون إلى الشقاء الأعظم في نار الجحيم والعياذ بالله، وللمزيد من الفائدة يمكن مراجعة الفتوى رقم: 10397، أما ما تجدين من أزمة في علاقتك بوالديك فهذا يمكن علاجه بأمور:

أولها: أن تتذكري عظم قدر الوالدين فإن حقهما هو أكبر الحقوق وأعظمها بعد حق الله سبحانه، وقد بينا طرفا من ذلك في الفتوى رقم: 76174.

ثانياً: أن تجاهدي نفسك في الصبر على ما يحدث منهما من هفوات في حقك، ولا تستجيبي لداعي الشيطان والنفس الامارة، فتقابلي إساءتهما -إن وجدت- بمثلها.

ثالثاً: أن تتوددي إليهما وتتقربي منهما ولو بتكلف فإن الإحسان له أثر كبير في تأليف القلوب وإزالة ما فيها من نفور.

رابعاً: أن تكثري من الدعاء أن يؤلف الله بينك وبينهما وأن يصلح ذات بينكم.. نسأل الله سبحانه أن يهديكم سواء السبيل، وأن يؤلف بين قلوبكم ويصرف عنكم كيد الشيطان، وننصحك بمراجعة قسم الاستشارات في الموقع.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني