الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاعلمي أيتها السائلة أن الله سبحانه بحكمته وفضله قد جعل الرضا والفرح والسرور والنشاط والأنس وقرة العين في طاعته وامتثال أوامره، قال سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً {النحل:97}، وقال سبحانه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {طه:123}، وجعل أضداد هذه من الهم والحزن والضيق واليأس والكآبة في التفريط في الطاعة وفعل المعصية، فما يجده الإنسان من هم وغم وضيق في الصدر ونكد في العيش فإن هذا غالباً ما يكون ثمرة من ثمرات المعاصي النكدة ونتاج من نتاجها المر، قال الله سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:124}، وقد قال سبحانه: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا {النساء:123}، فما يشعر به الإنسان من ضيق أو هم أو غم أو وحشة في قلبه أو تعسير في أمره فإن هذا غالباً ما يكون بسبب ذنوبه ومعاصيه.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الجواب الكافي: ومنها (عقوبات المعاصي): وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله جل وعلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام، وليس على القلب أمر من وحشة الذنب على الذنب فالله المستعان، ومنها الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس، ولا سيما أهل الخير منهم، فإنه يجد وحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم وحرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان بقدر ما بعد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشاً من نفسه، وقال بعض السلف إني لأعصي الله فارى ذلك في خلق دابتي وامراتي، ومنها تعسير أموره عليه فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرا، فمن عطل التقوى جعل الله له من أمره عسرا. انتهى بتصرف.
بل إن ما يبتلي به العبد من معاص وعادات قبيحة يكرهها ويبغضها ولا يستطيع الإقلاع عنها، فإن هذا غالباً ما يكون بسبب معصية أخرى، لأن من جزاء الحسنة حسنة مثلها ومن جزاء السيئة سيئة مثلها، وقد نص العلماء على أن ترك الواجبات من أسباب الابتلاء بالمعاصي وتسلط الشياطين، لقوله سبحانه: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {الزخرف:36}، وقوله جل وعلا: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ {المائدة:14}.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ..
غن ترك الواجب سبب لفعل المحرم، قال الله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ. فهذا نص في أنهم تركوا بعض ما أمروا به فكان تركه سبباً لوقوع العداوة والبغضاء المحرمين، وكان هذا دليلاً على أن ترك الواجب يكون سبباً لفعل المحرم كالعداوة والبغضاء. انتهى.
فراجعي أيتها السائلة علاقتك بربك وجددي توبة لما كان منك من تقصير في فعل محظور أو ترك واجب، ثم عليك بالانطراح على باب الله سبحانه والابتهال إليه والإلحاح عليه في الدعاء أن يعافيك مما تجدينه في صدرك وأن يصرف عنك شرور نفسك ويكفيك كيد الشيطان ومكره، واسأليه سبحانه أن يصرف عنك مشاهدة هذه المناظر المحرمة فإنها أضر شيء على القلب، ولا يرجى للإنسان صلاح ولا هدى وهو مقيم على مشاهدة هذه المنكرات، وقد بينا خطرها على دين المرء وخلقه. وذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 117920، 76130، 3605.
واصرفي عنك هذا التفكير الشيطاني في الانتحار وقتل النفس، فإن هذا من أعظم الذنوب وأقبحها بالإضافة إلى أنه لا يحقق لأصحابه ما يتوهمون فيه من الراحة فإنهم وإن هربوا به من شقاء الدنيا، فإنهم ينتقلون إلى الشقاء الأعظم في نار الجحيم والعياذ بالله، وللمزيد من الفائدة يمكن مراجعة الفتوى رقم: 10397، أما ما تجدين من أزمة في علاقتك بوالديك فهذا يمكن علاجه بأمور:
أولها: أن تتذكري عظم قدر الوالدين فإن حقهما هو أكبر الحقوق وأعظمها بعد حق الله سبحانه، وقد بينا طرفا من ذلك في الفتوى رقم: 76174.
ثانياً: أن تجاهدي نفسك في الصبر على ما يحدث منهما من هفوات في حقك، ولا تستجيبي لداعي الشيطان والنفس الامارة، فتقابلي إساءتهما -إن وجدت- بمثلها.
ثالثاً: أن تتوددي إليهما وتتقربي منهما ولو بتكلف فإن الإحسان له أثر كبير في تأليف القلوب وإزالة ما فيها من نفور.
رابعاً: أن تكثري من الدعاء أن يؤلف الله بينك وبينهما وأن يصلح ذات بينكم.. نسأل الله سبحانه أن يهديكم سواء السبيل، وأن يؤلف بين قلوبكم ويصرف عنكم كيد الشيطان، وننصحك بمراجعة قسم الاستشارات في الموقع.
والله أعلم.