[ ص: 568 ] وقد ورد من المرفوع في التفسير ثلاثة أحاديث طوال تركتها .
أحدها : الحديث في قصة موسى مع الخضر ، فيه تفسير آيات من الكهف ، وهو في صحيح وغيره . البخاري
الثاني : حديث الفتون . طويل جدا في نصف كراس ، يتضمن شرح قصة موسى ، وتفسير آيات كثيرة تتعلق به ، وقد أخرجه وغيره ، لكن نبه الحفاظ منهم النسائي المزي ، وابن كثير ، على أنه موقوف من كلام وأن المرفوع منه قليل ، صرح بعزوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . ابن عباس ،
قال ابن كثير : وكأن تلقاه من الإسرائيليات . ابن عباس
الثالث : حديث الصور ، وهو أطول من حديث الفتون ، يتضمن شرح حال [ ص: 569 ] القيامة ، وتفسير آيات كثيرة من سور شتى في ذلك ، وقد أخرجه ابن جرير ، والبيهقي في البعث ، وأبو يعلى ، ومداره على إسماعيل بن رافع قاضي المدينة . وقد تكلم فيه بسببه ، وفي بعض سياقه نكارة ، وقيل : إنه جمعه من طرق وأماكن متفرقة ، وساقه سياقا واحدا .
وقد صرح ابن تيمية فيما تقدم وغيره بأن . النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه تفسير جميع القرآن أو غالبه
[ ص: 570 ] ويؤيد هذا ما أخرجه أحمد ، عن وابن ماجه ، عمر بأنه قال : من آخر ما نزل به آية الربا ، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها .
دل فحوى الكلام على أنه كان يفسر لهم كل ما نزل ، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية لسرعة موته بعد نزولها ، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه .
وأما ما أخرجه البزار ، عن عائشة ، قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القرآن إلا آيا بعد علمه إياهن من جبريل .
فهو حديث منكر كما قاله ابن كثير ، وأوله وغيره ، على أنها إشارات إلى آيات مشكلات أشكلن عليه ، فسأل الله علمهن ، فأنزل إليه على لسان ابن جرير جبريل .
وقد من الله تعالى بإتمام هذا الكتاب البديع المثال ، المنيع المنال ، الفائق بحسن نظامه على عقود الآل ، الجامع لفوائد ومحاسن لم تجتمع في كتاب قبله في العصر الخوال .
أسست فيه قواعد معينة على فهم الكتاب المنزل ، وبينت فيه مصاعد يرتقى فيها للإشراف على مقاصده ويتوصل ، وأركزت فيه مراصد تفتح من كنوزه كل باب مقفل .
فيه لباب العقول ، وعباب المنقول ، وصواب كل قول مقبول ، محضت فيه كتب العلم على تنوعها ، وأخذت زبدها ودرها ، ومررت على رياض التفاسير على كثرة عددها ، واقتطفت ثمرها وزهرها ، وغصت بحار فنون القرآن فاستخرجت جواهرها ودررها ، وبقرت عن معادن كنوز فخلصت سبائكها ، وسبكت فقرها .
فلهذا تحصل فيه من البدائع ما تبت عنده الأعناق بتا ، وتجمع في كل نوع منه ما تفرق في مؤلفات شتى ، على أني لا أبيعه بشرط البراءة من كل عيب ، ولا أدعي أنه جمع سلامة ، كيف والبشر محل النقص بلا ريب .
هذا وإني في زمان ملأ الله قلوب أهليه من [ ص: 571 ] الحسد ، وغلب عليهم اللؤم حتى جرى منهم مجرى الدم من الجسد .
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
قوم غلب عليهم الجهل وطمهم ، وأعماهم حب الرياسة وأصمهم ، قد نكبوا عن علم الشريعة ونسوه ، وأكبوا على علم الفلاسفة وتدارسوه ، يريد الإنسان منهم أن يتقدم ، ويأبى الله إلا أن يزيده تأخيرا ، ويبغي العز ولا علم عنده ، فلم يجد له وليا ولا نصيرا .
أتمشي القوافي تحت غير لوائنا ونحن على أقوالها أمراء
ومع ذلك فلا نرى إلا أنوفا مشمرة ، وقلوبا عن الحق مستكبرة ، وأقوالا تصدر عنهم مزورة ، كلما هديتهم إلى الحق كان أصم وأعمى لهم ، كأن الله لم يوكل بهم حافظين يضبطون أقوالهم وأعمالهم ، فالعالم بينهم مرجوم يتلاعب به الجهال والصبيان ، والكامل عندهم مذموم داخل في كفة النقصان .
وايم الله ، إن هذا لهو الزمان الذي يلزم فيه السكوت والمصير حلسا من أحلاس البيوت ، ورد العلم إلى العمل ، لولا ما ورد في صحيح الأخبار : من علم علما فكتمه ألجمه الله بلجام من نار
ولله در القائل :
ادأب على جمع الفضائل جاهدا وأدم لها تعب القريحة والجسد
واقصد بها وجه الإله ونفع من بلغته ممن جد فيها واجتهد
واترك كلام الحاسدين وبغيهم هملا فبعد الموت ينقطع الحسد
وأنا أضرع إلى الله جل جلاله ، وعز سلطانه ، كما من بإتمام هذا الكتاب أن يتم النعمة بقبوله ، وأن يجعلنا من السابقين الأولين من أتباع رسوله ، وأن لا يخيب أملنا فهو الجواد الذي لا يخيب من أمله ، ولا يخذل من انقطع عمن سواه وأمله .
وصلى الله على من لا نبي بعده ، سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون .