فصل
ومن ، وهذا يشهده أهل النار في النار ، ومدة الكفر والشرك منقطعة ، فكيف يكون العذاب على [ ص: 264 ] المنقطع سرمدا أبد الآبدين لا انقطاع له البتة ؟ بخلاف النعمة ، فإنه محض فضله ، فدوامه لا ينافي الحكمة . عدله سبحانه أنه لا يزيد أحدا في العذاب على القدر الذي يستحقه
فإن قيل : لما كان من نيته أن يستمر على الشرك والكفر ، ولو عاش أبدا كان عقابه موافقا لهذه النية والإصرار ، فالجواب : أن العقوبة الدائمة إما أن تكون مصالحة للمعاقب ، أو للمعاقب ، أو لهما ، أو غيرهما ، أو لا مصلحة فيها البتة ، والأقسام كلها باطلة .
أما المعاقب فإنه إنما تكون العقوبة مصلحة في حقه إذا كان محتاجا إليها لشفاء غيظه وإطفاء نار غضبه التي يتأذى ببقائها ، والله تعالى منزه عن ذلك كله ، فلم يبلغ العباد ضره فيضروه ، ولا نفعه فينفعوه ، ولو أن أول خلقه وآخرهم ، وإنسهم وجنهم ، كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما ضره ذلك شيئا ، ولا نقصه من ملكه شيئا ، وأما أنه لا مصلحة للمعاقب ولا لغيره في ذلك فظاهر ، فتعين القسم الأخير وهو أنه مصلحة فيها ، ودون كذلك فهو عبث يتعالى الله عنه ، سبحانه أن يخلق باطلا أو سدى أو عبثا أو خاليا عن مصلحة وحكمة ، وهذا بخلاف ما إذا قيل : وضعت العقوبة لمصلحة ، وتقدرت بقدرها ، فإذا حصلت الحكمة والغاية المطلوبة منها وترتب المصلحة التي قصدت بها عاد الأمر إلى الرحمة والجود .
ثم إن هذه النفوس الظالمة الكافرة لها بداية وتوسط ونهاية ، فهي في بدايتها قابلة للحق والعدل ، ولهذا لم يعذبها الله في هذه الحال ، وإن علم منها أنها تختار الكفر ، وأما في حال توسطها من حيث عقلت وقامت عليها الحجة فإنها استحقت العذاب حينئذ لأن العقوبة مع الجناية ، فاقتضت الحكمة تأخيرها إلى دار الجزاء لعلها أن تراجع الحق ، فضرب لها مدة الحياة أجلا وأمدا تتمكن فيه من الرجوع إلى الحق واستدراك الفارض ، فلما لم تفعل ذلك ختم عليها العقوبة ، ومعلوم أنها إنما استمرت في مدة الحياة على غيها وكفرها لقيام الأسباب التي زينت لها ذلك ، ولولا تلك الأسباب لآثرت رشدها ، فإنه مقتضى فطرتها ، ولا ريب أن تلك الأسباب تبطل وتضمحل في الآخرة ولا سيما في دار العذاب ، بل إنما وضعت تلك الدار لإزالة تلك الشرور ، وكيف تدوم تلك الأسباب وقد ذاقوا عقوبتها وألمها الشديد ، وتيقنوا أنها كانت أضر شيء عليهم وندموا عليها أعظم الندم ، وليس في الطبيعة الإنسانية الإصرار على تلك الأسباب وإيثارها بعد طول التألم الشديد بها ، نعم العذاب باق ما بقيت ، فإذا قدر زوالها وتبدلها وإقرار أصحابها على أنفسهم أنهم كانوا ظالمين وأن الله تعالى إنما [ ص: 265 ] عذبهم بعدله ، وشهدوا على أنفسهم أنهم لا يصلح لهم غير ما هم فيه من العقوبة وأن حمده سبحانه أنزلهم تلك الدار ، فقام بقلوبهم حمده وشكره والثناء عليه بموجب أسمائه وصفاته التي كانت في فطرهم أولا ، وحمدوه حمد محب معترف بالجناية ، وآثروا رضاه على كل شيء ، فلو قام هذا بقلوبهم حقيقة وعلمه الله منهم لصارت النار بردا وسلاما عليهم .
كما في الأثر المرفوع الذي ذكره في كتاب " ابن أبي الدنيا " حسن الظن بالله . أن رجلين ممن دخلا النار اشتد صياحهما ، فقال تعالى : أخرجوهما فأخرجا ، فقال : لأي شيء اشتد صياحكما ؟ قالا : فعلنا ذلك لترحمنا ، قال : رحمتي بكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار ، قال : فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيها فيجعلها الله بردا وسلاما عليه ، ويقوم الآخر فلا يلقي نفسه ، فيقول له الرب : ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك ؟ فيقول : رب إني أرجو ألا تعيدني فيها بعدما أخرجتني ، فيقول الرب : لك رجاؤك ، فيدخلان جميعا الجنة
وذكر أيضا حديثا آخر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ابن أبي الدنيا يؤمر بإخراج رجلين من النار ، فإذا أخرجا وقفا ، قال الله لهما : كيف وجدتما مقيلكما وسوء مصيركما ؟ فيقولان : شر مقيل وأسوأ مصير سار إليه العباد ، فيقول لهما : بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد ، قال : فيأمر بصرفهما إلى النار ، قال : فأما أحدهما فيعدو في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها ، وأما الآخر فتلكأ ، فيؤمر بردهما ، فيقول للذي عدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها : ما حملك على ما صنعت وقد خبرتها ؟ فيقول : إني قد خبرت من وبال المعصية ما لم أكن لأتعرض لسخطك ثانية ، فيقول الله للثاني : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : حسن ظني بك حين أخرجتني أن لا تردني إليها ، فرحمهما الله تعالى وأمر بهما إلى الجنة " .
وفي رواية : " إنه يقول للأول : لو حذرتني مثل حذرك في الآخرة لم أدخلك النار ، ويقول للآخر : لو أحسنت ظنك بي في الدنيا مثل حسن ظنك بي اليوم ما أدخلتك النار " .
[ ص: 266 ] وفي المسند وغيره من حديث . الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة : المعتوه ، والأصم والمتوفى في الفترة ، وأن الله تعالى يؤجج لهم نارا ويقول : اقتحموها ، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن امتنع جر إليها
فهؤلاء لما آثروا مرضاته بالعذاب على مرضاة أنفسهم وقام بقلوبهم أن رضاه في تعذيبهم أحب إليه من رضاهم في خلافه استحالت النار في حقهم وانقلبت بردا وسلاما وهذا أمر مشاهد في الواقع بين الناس ، وهو في اقتضاء التوبة بدفعها فإن المذنب لو بلغت ذنوبه عنان السماء إذ ألقى نفسه بفناء من أساء إليه وتوسد عتبة بابه فوضع خده عليها مستسلما مسلما نفسه إليه ليقضي فيها ما أراد راضيا بما يقضيه فيه حامدا له عليه عالما أن الحق له ، وقد سلم إليه محل الحق يستوفيه منه فإنه متى فعل ذلك أذهب ما في قلب من أساء إليه من الحنق والغيظ ، وعاد مكان الغضب عليه رقة ورحمة ، هذا مع حاجته وبلوغ أذاه ، ووصوله إليه ، وقلة صبره ، وضعف احتماله ، فكيف بالغني الحميد الذي لن يبلغ العباد ضره ولا نفعه ، فلا تزيد عقوبتهم في ملكه شيئا وهو أرحم الراحمين .
فهذا القدر من وجده في قلبه في الدنيا لم يدخل دار الشقاء إلا تحلة القسم ومن لم يظهر له هذا في الدنيا سيعلمه في الآخرة كما قال تعالى : ( فاعترفوا بذنبهم ) وقال : ( فعلموا أن الحق لله ) وقال تعالى : ( قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) .
فلا شيء أنفع لهم في عذابه من حمده والثناء عليه ، ومحبته على كمال عدله فيهم ، وقولهم : إن كان هذا رضاك فلا نطلب غيره ، ويشتد غضبهم على نفوسهم ومقتهم لها موافقة لغضب ربهم ومولاهم ، ولكن هذا القدر لا تسمح به النفوس اللئيمة الجاهلة الظالمة اختيارا فإذا عوقبت بما تستحق وبلغ منها العذاب مبلغه وكسرها وأذلها ، فإن أراد بها خيرا أشهدها ذلك وجعله حاضرا [ ص: 267 ] عندها ، فالرحمة حينئذ أدنى إليها من العقوبة ، والعفو أقرب إليها من الانتقام ، فإذا أراد بها بارئها وفاطرها أن يرحمها ألهمها فانتقلت به من حال إلى حال فإن شاء أنشأها بعد ذلك نشأة أخرى ، وطبعها على غير طبيعتها الأولى ، فهو على كل شيء قدير ، وهو الحكيم العليم ، فلا يظن به من ساء فهمه أن هذا يناقض ما أخبر الله ورسوله به ، واتفق عليه سلف الأمة أنهم مخلدون في النار ، وما هم منها بمخرجين ، وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، فمن رد كذلك وكذبه فهو كافر جاحد لما علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به ، فليس في هذا نظر ولا شك ، وإنما الشأن في كون النار أبدية كالجنة لا تفنى أبدا وإلا فمتى دامت نارا فهم فيها خالدون .