الخامس والعشرون : أن غاية ما ينتهي إليه من ادعى معارضة العقل للوحي أحد أمور أربعة لا بد له منها : إما تكذيبها وجحدها ، وإما اعتقاد أن الرسل خاطبوا الخلق خطابا جمهوريا لا حقيقة له ، وإنما أرادوا منهم التخيل وضرب الأمثال ، وإما اعتقاد أن المراد تأولها وصرفها عن حقائقها بالمجازات والاستعارات ، وإما الإعراض عنها وعن فهمها وتدبرها ، واعتقاد أنه لا يعلم ما أريد بها إلا الله ، فهذه أربع مقامات ، وقد ذهب إلى كل مقام منها طوائف من بني آدم .
والمقام الأول : مقام التكذيب ، وهؤلاء استراحوا من كلفة النصوص والوقوع في التشبيه والتجسيم ، وخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم .
المقام الثاني : مقام أهل التخييل ، قالوا : إن الرسل لم يمكنهم مخاطبة الخلق بالحق في نفس الأمر ، فخاطبوهم بما يخيل إليهم ، وضربوا لهم الأمثال ، وعبروا عن المعاني المعقولة بالأمور القريبة من الحس ، وسلكوا ذلك في باب الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر ، وأقروا باب الطلب على حقيقته ، ومنهم من سلك هذه المسلك في الطلب أيضا ، وجعل الأمر والنهي إشارات وأمثالا ، فهم ثلاث فرق ؟ هذه إحداها ، والثانية سلكت ذلك في الخبر دون الأمر ، والثالثة سلكت ذلك في الخبر عن الله وعن صفاته دون المعاد والجنة ، وذلك كله إلحاد في أسماء الرب وصفاته ودينه واليوم الآخر ، والملحد لا يتمكن من الرد على الملحد وقد وافقه في الأصل وإن [ ص: 131 ] خالفه في فروعه ، ولهذا استطال على هؤلاء الملاحدة وأتباعه غاية الاستطالة ، وقالوا : القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص الصفات ، قالوا : بل الأمر فيها أسهل من نصوص الصفات ، لكثرتها وتنوعها وتعدد طرقها ، وإثباتها على وجه يتعذر معه التأويل ، فإذا كان الخطاب بها خطابا جمهوريا فنصوص المعاد أولى . ابن سينا
قال : فإن قلتم : نصوص الصفات قد عارضها ما يدل على انتفائها من العقل ، قلنا : ونصوص المعاد قد عارضها من العقل ما يدل على انتفائها ، ثم ذكر العقليات المعارضة للمعاد ما يعلم به العاقل أن العقليات المعارضة للصفات من جنسها أو أضعف منها .
المقام الثالث : مقام أهل التأويل ، قالوا : لم يرد منا اعتقاد حقائقها ، وإنما أريد منا تأويلها بما يخرجها عن ظاهرها وحقائقها ، فتكلفوا لها وجوه التأويلات المستكرهة ، والمجازات المستنكرة التي يعلم العقلاء أنها أبعد شيء عن احتمال ألفاظ النصوص لها ، وأنها بالتحريف أشبه منها بالتفسير .
والطائفتان اتفقتا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين الحق للأمة في خطابه لهم ولا أوضحه ، بل خاطبهم بما ظاهره باطل ومحال ، ثم اختلفوا ، فقال أصحاب التخييل : أراد منهم اعتقاد خلاف الحق والصواب ، وإن كان في ذلك مفسدة فالمصلحة المترتبة عليه أعظم من المفسدة التي فيه ، فقال أصحاب التأويل : بل أراد منا أن نعتقد خلاف ظاهره وحقيقته ، ولم يبين لنا المراد تعويضا إلى حصول الثواب بالاجتهاد والبحث والنظر وإعمال الفكرة في معرفة الحق بعقولنا ، وصرف تلك الألفاظ عن حقائقها وظواهرها ، لننال ثواب الاجتهاد والسعي في ذلك ، فالطائفتان متفقتان أن ظاهر خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلال وباطل ، وأنه لم يبين الحق ، ولا هدى إليه الخلق .
المقام الرابع : مقام اللاإرادية الذين يقولون : لا ندري معاني هذه الألفاظ ، وينسبون طريقهم إلى السلف ، وهي التي يقول المتأولون : إنها أسلم ، ويحتجون بقوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) ويقولون : هذا هو الوقف التام عند جمهور السلف ، وهو قول أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعائشة ، وغيرهم من السلف والخلف ، ثم وعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا أصحابهم ولا التابعون لهم بإحسان ، بل يقرءون كلاما لا يعقلون معناه . وعروة بن الزبير
[ ص: 132 ] ثم هم متناقضون أفحش تناقض ، فإنهم يقولون : تجرى على ظاهرها ، وتأويلها باطل ، ثم يقولون : لها تأويل لا يعلمه إلا الله ، وقول هؤلاء باطل ، فإن الله سبحانه أمر بتدبر كتابه وتفهمه وتعقله ، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء لما في الصدور ، وحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات والقدر والأفعال ، واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكم ولا هدى ولا شفاء ولا بيان .
وهؤلاء طرقوا لأهل الإلحاد والزندقة والبدع أن يستنبطوا الحق من عقولهم ، فإن النفوس طالبة لمعرفة هذا الأمر أعظم طلب ، والمقتضى التام لذلك فيها موجود ، فإذا قيل لها : إن ألفاظ القرآن والسنة في ذلك لها تأويل لا يعلمه إلا الله ، ولا يعلم أحد معناها ، فرت إليه عقولهم وفطرهم وآراؤهم ، فسد هؤلاء باب الهدى والرشاد ، وفتح أولئك باب الزندقة والبدعة والإلحاد وقالوا : قد أقررتم بأن ما جاءت به الرسل في هذا الباب لا يحصل منه علم بالحق ولا يهدي إليه ، فهو في طريقتنا لا في طريقة الأنبياء ، فإنا نحن نعلم ما نقول ونثبته بالأدلة العقلية ، والأنبياء لم يعلموا تأويل ما قالوه ولا بينوا مراد المتكلم به ، وأصاب هؤلاء من الغلط على السمع ما أصاب أولئك من الخطأ في العقل .